سيزيف مصري

في الأسطورة الأغريقية، سيزيف في الجحيم وعقابه أن يرفع صخرة من القاع حتي قمة جبل شاهق، وقبل أن يصل بقليل تسقط منه لأسفل، فيعود ليبدأ من جديد، بلا نهاية. ما أشبه ذلك بنا، أولادك يا بلدي

Sunday, December 31, 2006

الهجوم علي فيلم دنيا






لاقي فيلم دنيا لمخرجته اللبنانية جوسلين صعب الكثير من الهجوم، حتي أن البعض دعا إلي عدم مشاهدته أو مقاطعته

والحقيقة، في رأيي، بعد مشاهدته هو أنه فيلم متوسط المستوي فنياً، إلا أنه تجربة تستحق الاحترام، فضلاً عن التقدير والدعم

يقترب الفيلم من مناطق محظورة (الحرية الجنسية، والكبت الجنسي، والختان، وحرية التعبير) ولهذا فهناك حساسية ما تجاهه من أي مشاهد له، ورغماً عنه. من الصعب أن أكون موضوعياً مع فيلم يعالج قضايا لديّ موقف ضدها أو معها، ومن هنا كانت خطورة الانزلاق في مساندته وتغافل أخطاؤه الفنية، أو التحيز ضده والتغافل عن جمالياته وأهمية موضوعاته

لهذا أدعو الكل إلي مشاهدته (شاهدته في سينما ريفولي، قرب الاسعاف/محطة مترو جمال عبدالناصر، ولا أعلم هل هو في صالات سينما أخري أم لا)

هذا موقع أنشأته المخرجه للفيلم:
http://www.dunia-lefilm.com

وهذه مقالة جيدة لأمنية طلعت عن الفيلم

الهجوم على فيلم دنيا
وعودة موسم تشويه سمعة مصر


لا أدري لماذا تذكرت فيلم ناجي العلي عندما تابعت الهجوم العنيف على فيلم (دنيا) للمخرجة اللبنانية جوسلين صعب وبطولة حنان ترك ومحمد منير، حيث أن الهجوم على هذا الفيلم لعب على نفس الوتر الحساس جدا، الذي يهيج الناس في الشوارع ويجعلك واقفا بلا حيلة ولا تستطيع استخدام أي منطق في النقاش...الوتر الحساس الذي يسمى (سمعة مصر) وكل من نخالفه في الرأي لا نجد وسيلة للقضاء عليه سوى باستخدام الجملة الشهيرة لكبار الصحفيين والنقاد الفطاحلة ألا وهي (تشويه سمعة مصر) هكذا قالوا عن فيلم ناجي العلي منذ أكثر من عشرة سنوات والآن نشاهد الفيلم على كل القنوات الفضائية ونستمتع به بل ونلتهب حماسا معه رافعين قبعاتنا لكل من ساهم في هذا الفيلم حتى ولو بمشهد واحد مثل الفنان محمود الجندي
أعتقد تماما أن فيلم دنيا يتعرض لنفس الحملة الشعواء التي لا هدف لها سوى الإبقاء على الظلامية وحالة التقدم للخلف التي تعيشها مصر منذ أكثر من عقدين وفي الحقيقة لا أدري لمصلحة من يحدث كل هذا؟ فالفيلم حتى ولو احتوى على بعض الهنات في السيناريو والإخراج فهو على الأقل فيلما محترما يظهر وسط سيل هادر من الأفلام السطحية والمشوهة التي تمعن في سفك دماء عقول شبابنا وتحويلهم لمجرد هوام لا نفع منها ولا رجاء.إننا مع هذا الفيلم نواجه قضية هامة جدا ألا وهي عمليات الختم على العقول التي تمارسها بعض التيارات في مصر والمنطقة العربية منذ أكثر من عقدين حتى استطاع أو قاب قوسين أو أدنى من القضاء على الدولة المدنية بكل مميزاتها التقدمية في الفكر والعلم والفن والأدب بل وفي حالة الوعي الجمعي للبسطاء من الناس في الشوارع، لنتحول تدريجيا إلى آلات ميكانيكية تسير وفقا لمعايير أخلاقية لا أول لها ولا آخر ولا علاقة للخالق بها من الأساس، فيكون علينا ذبح المتنبي وشهرزاد وابن الرومي وابن رشد وابن عربي في سبيل إحياء ثقافة الثعبان الأقرع التي لا نمر بدونها نحو الجنة
-
كنت أتمنى بالفعل أن أكتب مقالا نقديا عن فيلم يعد بحق إضافة للسينما المصرية والعربية بشكل عام ولكني وجدت أنني مضطرة لكتابة عريضة دفاع عن فيلم حق أرادوا به ومن خلاله كل باطل، فلقد تم اختزال الفيلم بواسطة عباقرة الوطنيين والمخلصين والمتشنجين من أجل الوطن إلى فيلم يعالج قضية الختان للإناث في مصر وأننا نشوه بذلك سمعة مصر..السؤال هنا وهل تشويه سمعة مصر يأتي بوضع عللها ومشاكلها على الطاولة لمناقشتها والبحث عن حلول لها؟ أم أن سمعة مصر( لمن يتباكى عليها) لم تتشوه إلا على أيدي جوسلين صعب من خلال فيلمها الجميل (دنيا) ؟
-
ألم تشاهدوا الفضائيات العربية والعالمية يا سادة وهي تغطي أحداث الإنتخابات البرلمانية مؤخرا؟ أكان مشهد الانتخابات في مصر إعلاء لسمعتها؟ ...هنا أسأل كبار الوطنيين الذين جعلوا من فيلم دنيا فيلما غير لائقا باسم مصر العظيم ...من يا سادة الذي شوه سمعة مصر.. فيلم دنيا أم المشهد الإعلامي العظيم الذي دار في كل أنحاء العالم للإنتخابات المصرية البرلمانية ؟...قد يقول قائل أنني أخلط الأوراق فهذا فيلم والآخر أحداث تغطى خبريا، لكني أؤكد له أنني واعية تماما لما أقول فلقد كانت الانتخابات أكبر فيلم خيالي صعب تصديقه عن مصر أم الدنيا وشعبها الذي يمتد تاريخه للآلاف السنين السابقة.لقد شاهدت هذا الفيلم مرتين وظللت طوال الفيلم أحاول العثور على ولو كلمة واحدة تسئ لمصر لكنني لم أجد، كل ما وجدته عدسة كاميرا مبهجة لمخرجة ماهرة تعي ما تفعله تماما، فلقد قدمت لنا جوسلين صعب زاوية بصرية جديدة لشوارع القاهرة التي نسير فيها منذ وعينا، قدمت جمالا لا يراه أيا منا في المناطق الشعبية والأزقة والبنايات العتيقة المتهالكة، حتى أنها عندما اختارت حجرة صغيرة لتكون سكن بطلة الفيلم اختارت حجرة لا أدري من أين عثرت عليها فلقد تمنيت طوال المشاهد التي تم تصويرها في تلك الحجرة أن تكون هي مسكني لأطل على عالم السينما المبهج من شباكها وأقفز عبر الإفريز لأصل إلى الباب لأخرج، وأن أدور راقصة مع تلك الأنغام الرومانسية التي تحيي الروح بين جدرانها، لقد شاهدت جوسلين القاهرة التي تئن ومع ذلك قدمتها تئن بعظمة وجلال.لم أدر كيف لم يفهم البعض قصة الفيلم وقال أنها مهلهلة غير مترابطة حتى أن بعضهم قال (كيف يمكن لفتاة صعيدية من الصعيد أن تحلم بأن تكون راقصة؟) وكأنه لم يدر أن تلك الفتاة الصعيدية ابنة لراقصة شهيرة وأن أبوها هو الصعيدي الذي أخذهاا من أمها بعد ما لاحقه أهله بعار الزواج من راقصة وعاد بها إلى بلدته لتربيها عمتها....كأنه لم يشاهد الفيلم ولم يسمع الحوار الذي دار بين دنيا وعمتها عندما ذهبت إلى الأقصر بعد استدعائها لعرضها على أحد العرسان هناك...
-
.فوجئت أيضا بأحد الكتاب المبجلين يقول أن رقصات حنان ترك كانت كثيرة وأنها أخذت تدور حول نفسها طوال الفيلم حتى شعر بالدوار، في الحقيقة لم أستطع منع ضحكي وشفقتي على هذا الكاتب الذي وصلت درجة انغلاق عقله أنه ما عاد يستطيع تذوق الموسيقى وانسجام الجسد معها، بالطبع الحق معه فهو ابن لثقافة تحريم الرقص وتجريم الراقصات وفضحهن على صفحات الجرائد والتعامل معهن على أنهن ساقطات، هو نتاج للقضايا التي يتم مناقشتها تحت قبة البرلمان المبجل الذي يترك أعضاؤه قضايا الفقر والبطالة وفساد الذمم وتهريب أموال مصر للخارج ...إلخ ليناقشوا منع ظهور الرقص الشرقي على شاشة التليفزيون ومنع عرض كليبات روبي ونانسي عجرم هيفاء وهبي وإليسا ....للأسف هذه هي الثقافة المسيطرة الآن وهي نفسها التي تقف عائقا أمام أي إبداع حقيقي يحاول أن يرقى بالعقول وينبهها إلى مشاكلها وحاجاتها المسلوبة وقيمها الضائعة
-
فوجئت أيضا بمن يترك الفيلم كله ويركز على الإحصائية التي قدمتها المخرجة في آخر الفيلم والتي تقول فيها أن نسبة الختان في مصر هي 97% وبرغم أن المخرجة أكدت أن هذه النسبة حصلت عليها من المجلس القومي للمرأة إلا أنهم يصرون على أنها نسبة خاطئة حتى أن إحدى المذيعات المصريات في المؤتمر الصحفي الذي عقد بعد عرض الفيلم في مهرجان دبي السينمائي الثاني، تقول أن النسبة الحقيقية هي 48% وأن لديها أوراقا رسمية بذلك ولكنها لم تقدم لنا هذه الأوراق واكتفت بالهجوم على المخرجة التي لم تجد وسيلة للرد على هذه المذيعة سوى أن تنظر لها بحزن شديد، لأنها وكما قالت لي بعد ذلك كانت تتخيل أن المرأة نصيرة لنفسها لكنها فوجئت بالعكس، فلكم أن تتخيلوا يا سادة أن مذيعة مصرية أخرى هاجمت الفيلم لأن الترجمة تبدأ في النصف الأول من الفيلم بالإنجليزية لتتحول بعد ذلك إلى الفرنسية، وأخذت تتحدث عن اكتشافها العظيم وكأنه أكبر سقوط للفيلم.لم يكن الهجوم على فيلم دنيا محبطا للمخرجة والأبطال فقط بل كان محبطا لي أيضا لأنني لم أر سوى طريق صحراوي طويل بيننا وبين التقدم والتطور، لم أر سوى طريق ممتلئ بالأشواك أمام انتفاضنا على القهر والجهل والتخلف...
-
كان الهجوم على الفيلم _وأنا هنا لا أقول أنه أعظم الأفلام على الإطلاق – دليل قوي على أننا لن ننهض من كبوتنا هذه في القريب المرئي وربما لن يشهد تلك النهضة حتى أبناءنا فأبسط قوانين التحضر ألا وهي النقاش العقلاني والمنطقى لكل أمور حياتنا، غير متوفرة على الإطلاق فنحن لا نسمع بعضنا البعض ولا ننظر لمن يختلف معنا في الرأي سوى على أنه خائن ومتآمر وعدو .قال البعض أيضا أن الفيلم يحتوي على مشاهد جنسية مخلة، وفي الحقيقة لا أجد سوى أن أقول لهم فوقوا من كبتكم الجنسي وابحثوا عن حل له، فأين هذه المشاهد الجنسية المخلة؟ لقد قدمت جوسلين صعب رؤية إخراجية ذات رومانسية وجلال في المشاهد العاطفية التي يحتوي عليها الفيلم، لدرجة أنني وجدتها تضع حلا للنزاع بين مؤيدي السينما التي يسمونها (نظيفة!!!) وتلك السينما الأخرى الطبيعية التي نعرفها منذ النصف الأول من القرن العشرين، فجوسلين قدمت حلا وسطا حيث تقدم لنا مشاهدا عاطفية وفي نفس الوقت بلا تلامس حقيقي يثير أعصاب المتشددين وبالتالي لا تخل بالمعنى الدرامي للفيلم كما يحدث في الأفلام الحديثة التي تعلن من خلالها النجمات (لا للقبلات ولا للمشاهد العاطفية) لتخرج لنا الأفلام برقابة ذاتية تبتر الخط الدرامي لأي مشهد
-
إن فيلم دنيا ما هو إلا صرخة جرئية من مخرجة وأبطال طليعيين في وقت صعب يلاحق فيه المبدع ويتهم بالإباحية وتصادر الكتب وترفض الأفلام وكل أشكال الفنون بدعاوي أخلاقية لا تريد في أصلها سوى إفساد العقول والتهميش والتعمية عن واقع مهين يعيشه المصري كل يوم في منزله وفي شارعه وحتى في وسائل المواصلات التي يستخدمها، لقد كان صرخة ضد ختان العقول الذي يمارسه الأخلاقيون الجدد الذين طردوا المفكرين بدعاوي الحسبة وهاجموا المبدعين بدعوى الإباحية وحولوا الشباب لمجرد ماكينات شعائر لا ترى سوى البعد المادي للحياة ولا تحمل في جوانبها أي خيال يحملها نحو آفاق المستقبل ...إن قضية دنيا ليست قضية نسبة خاطئة للختان في مصر وليست قضية مشاهد إباحية وليست قضية سيناريو مهلهل وليست قضية تشويه لسمعة مصر وإنما هي قضية الإصرار على الثبات في البقعة المظلمة ورفض أي شعاع نور يضئ ولو خيط رفيع يأخذنا للأمام.

Saturday, December 30, 2006

عن وقفة أمس في ذكري مذبحة اللاجئين


لم يكن عدد الذين جاءوا لتلك الوقفة الصامتة، في ذكري مذبحة اللاجئين السودانيين يتجاوز الثلاثين. كان هناك ضابط مع جنود الأمن المركزي يعد الناس القادمين ويخبر شخصاً ما بالهاتف المحمول ب"العدد دلوقتي بقي 18 يا فندم، بس ما تقلقشي، أنا جايبلهم 300 عسكري". ولم يبالي بأننا نسمعه
كانت وقفة بسيطة، حاجة وعشرين حد، وشموع، وبعض اللافتات عن "لن ننسي" مذبحة اللأمن للاجئين
كنت أعرف أن التوقيت سيء، وقفة العيد، والناس بين مسافر ومشغول، هذا غير الانحسار لمد العمل العام والشارع بشكل عام منذ مايو الماضي. يعني لو ما جاش ناس كتير وكان عند الأمن مزاج إنه يعمل فينا أي حاجة هيعملها، لأن ما فيش قانون
لما رحت الساعة ستة وعشر دقايق كان هناك عشرة "محتجين" في صف صغير محاط بكوردون مستطيل، أحد أضلاعه سور الحديقة اللي قدام مسجد مصطفي محمود، وفي مواجهة طريق السيارات في شارع جامعة الدول، ترددت طبعاً في دخول الكوردون، بس قررت إنه ما دام قررنا نيجي يبقي خلاص، فطلبت من أحد الجنود إنه يعديني وجاله الأمر "أي حد عايز يدخل خليه يدخل" تعاون معانا يعني، والحمد لله.
باستثناء خطبة طويلة ألقاها أحد الواقفين معانا لجنود الأمن المركزي عن "اللي مشغلينهم وبيقفوا ورا دايماً ويسيبوهم في المواجهة"، و "اللي بيقولوا عليهم أغبياء"، و"عن الذنب اللي هما أو زمايلهم ارتكبوه السنة اللي فاتت بطاعة الأوامر واللي اتسبب عنه قتل 60 واحد" وعن "الصلاة والصوم اللي مش نافعين" الوقفة ما كانشي فيها مشاكل. هو طبعاً قال "إذا كنتم واقفين قصادنا ومش هنقدر نوصل كلامنا للناس، فهنوصله ليكم" بس أنا حسيت إنه قال كتير وكتير، متجاوزاً حكمة خير الكلام
كان فيه بعض المصورين، وحد فيهم نشر الصورة دي في أرابسيت، ، تجد اللنك بالأسفل
كل عام وأنتم بخير
A State Security Major told me this evening that sometimes these demonstrations get violent, which explains why the park in front of Mustafa Mahmoud mosque had to be sealed off with three truckloads of riot police and a couple of gangs of stick toting beltagaya tonight. “The Muslim Brotherhood sometimes comes,” he told me and gave me a knowing look.
While the two dozen mostly-familiar faces who showed up to stand for an hour and commemorate the first anniversary of the night that similar troops beat to death 28 people, including seven children, in the park didn’t get too rowdy, it was good to know that reinforcements were close by just in case.

Tuesday, December 26, 2006

في ذكري ما حدث ليلة 29 ديسمبر 2005


في ذكري مذبحة اللاجئين السودانيين

ندعوكم إلي وقفة احتجاجية صامتة
نضيء فيها الشموع

يوم الجمعة 29 ديسمبر 2006
الساعة السادسة مساءً

أمام مقر المفوضية العليا للأمم المتحدة
لشئون اللاجئين


ميدان مصطفي محمود بالمهندسين
أمام جامع مصطفي محمود



نفس المكان الذي لقي فيه عشرات اللاجئين السودانيين حتفهم
سنقف بالشموع، نعزي أنفسنا، ونعزي أسر الشهداء علي ما حدث



In Memorial of the Massacre
of the Sudanese Refugees

We invite you all to a silent protest
In which we will light candles


On Friday, December 29
At 06:00 pm


In front of the United Nations High Commissioner
For Refugees Office in Cairo
(Moustafa Mahmoud square, Muhandessin,
In front of Moustafa Mahmoud Mosque)

In the same place, where tens of Sudanese refugees were killed,
we will stand carrying candles, offering our useless condolences to ourselves, and their families.


http://tafassel.blogspot.com/index.html

http://manalaa.net/node/85388

عن ما حدث في ليلة 29 ديسمبر/ فجر 30 ديسمبر 2005
About what happened in the night of 29 December/ dawn of 30 December 2005

http://norayounis.com/2005/12/30/74

in the New Yourk Times





Sunday, December 24, 2006

اللقطة الأخيرة

هذه الصور وصلتني، علي أنها في مسابقة تصوير بعنوان "اللقطة الأخيرة" عن صور يمكن أن تكون الأخيرة للمصور أو الكاميرا، للأسف فإن بعضها حقيقي







Wednesday, December 20, 2006

عن الإعلام في الكوارث


إعلام الأزمات بين التفاعل والتغافل
..
مقال ل/ياسر علام
..
على حين ما يعمد البعض للنظر لنصف الكوب الممتلئ إيماناً منه بضرورة عدم التخلي عن التفاؤل والإيجابية، تعجز الكلمات عن وصف حاله إبان اكتشافه أنه حتى هذا النصف المراهن على امتلاءه، هو إلي زوال وذلك بسبب كون الكوب ذاته مثقوب. وتشخص الحالة السابقة حال البعض في مواجهة أزماتنا الثقافية التي ما تكاد تنتهي حتى تبدأ، ويتصور البعض إن المحنة هي منحة مع استخلاص الدرس المستفاد منها وتجنب الوقوع في أخطاء من ذات النوع.. غير أن الحقيقة تطل بوجهها القبيح لتكشف أن التصدعات والبلايا أكثر من أن يحاط بها.. ويظل المرء يضرب أخماساً في أسداس ويتحدث عن قدرات هذه الأمة في تجاوز الملمات والخروج منها متعافياً فعفياً من بعد.. وهذا حق.. لكن الأحق هو كيف حدث ذلك فيما مضى؟!.. لقد حدث فقط؛ بصدق مصارحة النفس، بالنقد الذاتي، بتعرية القبح، بشجاعة المحاسبة، وهي أمور نملك قولها الآن فحسب لا فعلها.. سيرتفع السؤال البديهي لماذا؟! لأن صانعي القول عمدوا عن جهل أو عن تأمر للحفاظ على هذا البون الشاسع بين الفعل والقول، بين الحقيقة والصورة، بين الوجه والقناع، بين الهزائم والتهليل. حسنا ما ومن الذي تعنيه بصانعي القول؟! الإعلام والثقافة فليكن.. هات ما عندك
..

نجحت المؤسسة الإعلامية عبر عقود في سحب الثقة من ذاتها في مواجهة مستهلكها بسلوكيات التضليل والترسيخ للوعي الزائف، أما مستهلكها الذي أدارت رأسه الحقائق حين تكشفت فتسأل لماذا كان التضليل؟! فجاءت الإجابة الحاسمة -وفقاً لردود صناعها-، و بأن ذلك كان لاعتبارات أمنية قومية مرة ووطنية مرات.. و في مواجهة هذا السلوك صنع المواطن الصغير من طرفه تعبيراته الدالة والمنتقمة من مضللوه فسمى كلامهم (كلام جرائد)، لتكون المقولة الدالة على لا-مصداقية الإعلام المتوجه إليه.. و لتضفر مع جديلة أخرى تكشف عدم ثقته عن المنتج الفني الذي من المفترض أنه يعبر عنه بكونه (شغل أفلام)..
وصنعت تؤمه (كلام جرايد)،(شغل أفلام) من التليفزيون هذا الصندوق الملون الذي يجلس المرء في مواجهته بعد يوم العمل بين الصحو النوم ليطالع ما يعرضه مطالعته لحوض السمك الملون
...

حسناً الضرورات التعبوية الأمنية العليا جعلت من الجهاز الإعلامي يفتقد المصداقية فهو صوت المعركة و عليه وحسب المثال الشمولي الأعلى (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة).. كان هذا مبرراً وله سياقه وهو أمر نفهمه.. ونحن نعنى ما نقول إذ نقول أننا نفهمه لكننا أبداً لا ولن نتفهمه.. لكن مع الإعلان عن الخروج من عباءة المنظومة التعبوية الجمعية إلي اقتصاد السوق الحر، والذي تم بإيقاع دفعت الشعوب ضريبته كخلاص باهظ الثمن. هل تحررت المنظومة الإعلامية لتفي بمالتطلبات الإعلامية لاقتصاد السوق؟! لقد كشفت الأزمات، والثقافي منها على وجه التحديد، في الأعوام الأخيرة إلي أي مدى أن المؤسسة الإعلامية متخبطة ونجحت في مزج سوءة هذا النظام بتلك من ذلك، لتصنع (كشري) يليق أيما لياقة بمنظمتنا الإدارية الفريدة.

إن المستهدف الإعلامي الاستراتيجي في ظل نظام سلطة الدولة الاشتراكي هو نشر الوعي بمشروع الدولة وتبرير هذا الخيار والحشد والترويج له، وتعرية تهافت وانتهازية ولا إنسانية ولا مشروعية الطرح المضاد الذي يطرحه الخصم الرأسمالي وبذا تكون الثقافة والإعلام ليسا إلا خدمة يتلقها المواطن لخلخله الوعي الزائف الذي يطرحه الآخر، وهي خدمة ينبني عليها الأمن القومي.. وعليه مدى صلاحية هذا الإعلام تقاس بمدى جودة هذه الخدمة والجودة تقاس بمدى تحقق الهدف الإستراتيجي.. أي حفاظه على مصداقية ما ينقله وأن يكون مع مرسخاً لمشروعه الحضاري المطروح على الجماعة عموماً.. وفي حال تغليب واحدة من تلك الكفتين على الأخرى تفشل الموازنة الأمنية الإعلامية.. فإن غلبت صحة معتقداتك الكلية، وغيب خبر يناقضها، فقد دخلت في نسق الخلل، وستظل تخفي وتخفي ثم تحرف من بعد، ثم تأتي الحقيقة فتنهار مصداقيتك وتلك بداية النهاية.. وفي حالة تغليب الكفة الأخرى مثل تغليب صحة الخبر بلا القدرة على وضعه في سياقه وتبريره وفقاً للنسق الثقافي العام الذي تطرحه، تكون قد زرعت الفيروس القادر على النيل منك ولو بعد حين.. جوهر النجاح هو التوازن إذن...

على النقيض من ذلك في اقتصاد السوق، يكون جوهر المعادلة الإعلامية هو (السلعة) وليس (الخدمة)، وهي سلعة معيار نجاحها قدرتها التسويقية، كثافة الراغبين في الشراء، وهو أمر يستلزم الجودة من جانب، و إرضاء الزبون من جانب أخر. واللعبة هنا تتشكل من كفتين هي الأخرى.. أولاهما هي القدرة المهنية الكفء للمنافسة، وثانيتهما تحقيق المبدأ السياقي العام القائل بأن التنافس والتعدد هو الأقدر على تحقيق مصالح الأفراد، وعليه متى جاء ذوق المشتري مخالف لما تعرضه كان عليك أن تسترضيه في كل الأحوال إما بإقناعه بتغيير رفضه المبدئي، وإما أن تتغير أن لتوائمه وألا لن يشتري، والموازنة بين هذا وذاك هو معيار كفائه التحقق الإعلامي في هذا المضمار.. فمخالفة المشترى بالكلية تجعلك تاجر خاسر، والتسليم له بما يريد أن يسمعه منك تجعلك تاجر نصاب..

نستطيع أن نتمسك بهذا السياق أو ذاك، ونحقق الكفاءة والجودة وفقاً لتمثل قناعته ومراعاة توازناته واستحقاقاته، غير أن الأسهل دائماً هو عدم السير على صراط العلمية فنأخذ سوءات هذا النظام وذاك، وننهل من آفة بيروقراطية الأول، و فهلوة الثاني..
فيأتي الحدث الأزمة فيختل الجهاز الحكومي الإعلامي حتى يصل عبر بطء أدائه المعهود عن اتخاذ قرار ملائم ومن ثم إنتاج خطاب محدد وسريع ومحتوى للأمر، ولا يكاد نظفر بالتصريح الحكومي الرسمي إلا في نهاية المطاف، بعد أن يكون حدث الأزمة ذاته قد تم بثه عبر مؤسسات إعلامية أكثر تحرراً، ولاحظ سلوك الجمهور في لحظات الأزمات، إنها تنصرف عن متابعة القنوات الرسمية لحكوماتها مثلاً، لترى ما الذي حدث عبر الفضائيات التي اكتسبت مصداقية وسرعة أداء وكفاية إعلامية مفلتة من عقال لزوم مالا يلزم
..

وأما آفة تلك الفضائيات المتعددة الحرة، فتأخذها شهوة المنافسة للحد الذي يجعلها ترغب في أن تكون الأشهى والأسخن في التغطية، لتغازل مشتريها ليس بالسلعة المطلوبة فحسب، بل والأوفر المقدم من صاحب المحل فوق البيعة.. ويصل الحد مداه الأقصى حين تصل تلك المحفزات والمقبلات للحد الذي يغطى على الأصل، بل ويوجهه، وبذا تتحول إلي خميرة إعلامية ترغيبية مشعلة وصانعة للحدث من أساسه.. وكلما مضت المسألة خطوات في هذا الاتجاه كلما طالب المشتري بالمزيد.. حتى يستحيل المنتج الإعلامي لحدث مصنوع خصيصاً لمتلقيه.. ومن ثم نصب كما أسلفنا.. وقد يصدق هذا على كافة مفردات الكيان الإعلامي من فضائيات، لجرائد مستقلة، لإذاعات خاصة، لمدونين..

هكذا تدار معارك خارج الملاعب، فلا يجد الإعلام الحكومي أمامه في مواجهة هذا الانفلات عن ثوابته الأدائية/الوطنية إلا التدخل في عمل المنظومة الأخرى، وعدم اعتبارها كشريك بل كبديل جاء ليحتل مكانته ويعريه فلا يكون له من سبيل إلا باستخدام ما يملكه من أدوات الترغيب والترهيب كحلول تكتيكية، و هو نفس ما يفعله هذا الإعلام مع جهاز الدولة الإعلامي المعطوب في تقديره، فهو يعلم أنه يستطيع أن يلجأ إلي الرشوة كمرغب والفضح كمرهب، وتوجد دائماً الشخصيات التي تستطيع أن تقوم بخوض المباحثات السرية بين هذا وذاك، أو أن يقوم مسئولين رفيعي المستوى بزيارة هنا أو هناك للتخفيف من نبر أولئك بناء على قوانين القوة النسبية التي يمتلكها هؤلاء أو أولئك في لحظة بعينها.. ولكل واقعة ملابستها التي يمكن تفسيرها في ضوء هذا المفهوم..

على سبيل المثال في حادثة جحيم بني سويف التي راح ضحيتها ما يزيد عن الـ50 مسرحي ما بين مبدع وناقد، تعطل الإعلام الحكومي في إعطاء غطاء إعلامي مقنع وظل يكرر (أن الكارثة تقع مسئوليتها على من رحلوا من خلال خطأ مهني قام به مخرج العرض، وصاعد من الحادث عدة أخطاء أخرى تضافرت منها أخطاء تأمين الموقع
وفكرة الخطأ المهني حين لم تبد مقنعة بشكل كاف، حيث ظهر مفهوم أن الكارثة لم تكن في الأزمة ذاتها، بل طريقة إدارة الأزمة، وفي شكل تعاطي المؤسسات الطبية، والأمنية، والثقافية، والإعلامية معها، يكفي أن نعلم أن ضحايا الكارثة أكثر من ضعف ضحايا الحريق، أي أن من ماتوا في المستشفيات كانوا أكثر ممن ماتوا في الحريق. أي أن شكل إدارة الأزمة هو الذي سبب الكارثة تقريباً. فالخطأ المهني وارد في أي مهنة، لكن ما الذي يحول الخطأ لكارثة سياق كامل من التعامل معه.. طبيب ينسى فوطه صغيرة في أحشاء مريضة، فيرى أخر أن الحل المثالي هو ذبحها لإخراج الفوطة سليمة، ويطفئ أحدهم النور حتى لا تتم زغللة عين الطبيب المعالج، ثم يأتي الخطاب الإعلامي ليؤكد أن الخطأ خطا المريضة التي لم تحسن اختيار الطبيب وتتحرى عنه
..

في مواجهة خطاب أن الكارثة كانت في شكل إدارة الأزمة جاء رد الإعلام الحكومي أننا سندع الأمر للتحقيقات.. وبغض النظر عن صحة هذا، أنا أتحدث عن هذا بكونه خطاب إعلامي تم تصديره، كان معناه المراهنة على إجراءات ومزيد من الإجراءات.. أي إدارة.. ولا يمكن أبداً على أن نعثر على مفهوم أيقوني أو ايمدجولجي يلخص فحوى الخطاب الرسمي آنذاك... تعثرات الإدارة وبيروقراطيتها لا تمكنان من ملاحقة أو صناعة صورة بهذه الكيفية..

و لا يقتصر الأمر فقط على عدم المرونة والملاحقة بل يرتبط كذلك بثبات ذهنية التعاطي مع الأزمات ربما كان مرد ذلك لثبات شخصيات قيادية لما يزيد عن العقدين في مناصب بما يفقدها القدرة عن الملاحقة، ربما لو أنها فقط أخذت أجازة _أعني القيادات لا المسئوليات- ولعدة سنوات ثم عادت للمنصب بعد تنشط رصيدها المعرفي المهني وإحداث عملية إحلال وتجديد لعادت بعد هذا التحديث بما يلائم المستجدات.. وهذا حال الموظف دائماً إنه بحاجة لدورات تدريبية للتطوير غير أنه يبدو مع تعاظم المسئولية يغيب هذا المفهوم.

على الوجه الآخر يبدو أن المؤسسات الإعلامية المستقلة عن سيطرة الحكومات لن تستسيغ مفاهيم مثل (المعارضة المسئولة) ولها أن تفعل، لكن يبقى أن الرهان على جنة المشتري تلك الجنة دانية القطوف، سيصل لمتاهة التحريف فالتخريف فالاختلاق، وإن كان الرهان على المشترى، فحساسية هذا المشترى المنبهر مؤقتاً بالمنتج المتحرر الجديد، لن يدوم إلي الأبد، هستريا التعتيم التي تربى عليها، والتي يأتي الفعل الإعلامي خصتكم ليكون رد فعل لها، مساوي في المقدار ومضاد في الاتجاه، ليصنع هستريا التهييج، لن يدوم مذاقه إلي الأبد، فالتوازن ضرورة ولو بعد حين، فإما أن تشاركوا في فضل إرسائه، وإما تكتفوا بفضل الخروج من عتمة ولكن إلى زغللة
..











































Sunday, December 17, 2006

من المسؤول عن جنون هذه الأمة؟!ه


د. وفاء سلطان
تزعم أسطورة صينية بأن غولاً كبيراً تربع على قمة جبل وتربّص بقرية هادئة وديعة تغفو على سفحه. كلما خرج إنسان من بيته قاصداً عمله، كان هذا الغول يزمجر من عليائه فيلقي الرعب في قلبه ويرده على عقبيه. أخيراً، تحولت القرية بكاملها إلى وكرٍ حَشرَ الناسُ أنفسهم فيهِ يقتلهم خوفهم وجبنهم، وينهشهم جوعهم ومرضهم. كان زعيم القرية شيخاً مســناً جباناً لم يُؤتَ من الحكمة قدراً ولا من العلم نذراً. ولما عجز عن مواجهة الأمر لجأ إلى ساحرة تعيش في أحد الكهوف أملاً في أن يجد لديها حلاً. قالت الساحرة: آتني برجلين منكم كي أجعل منهما غولين عندئذٍ يصبح بمقدورهما أن يتحديا ذلك الغول، ولكن لن أخفي عنك سراً، إن باستطاعتي أن أحوّل الإنسان إلى غول لكنني لا أستطيع أن أفعل العكس، إذ ليس بمقدوري أن أجعل من الغول إنساناً! في الصباح الباكر، توجه شابان شجاعان إلى كهف الساحرة. ونامتِ القرية على زمجرة غول لتستيقظ على هدير غولين!!
في العدد 303 من صحيفة العالم العربي الصادرة في لوس أنجلوس كتب الشيخ بلال حلاق في سياق رده على سؤال: "بعض الناس وهم على غير الإسلام يكرمون الضيف ويغيثون الملهوفين، هؤلاء إن أسلموا يُكتب لهم حسناتهم التي يعملونها بعد إسلامهم وأعمال الخير التي كانوا يعملونها وهم على الكفر كالصدقة وقرى الضيف وإغاثة الملهوف والإحسان إلى الأرامل. أما إن لم يسلم فمهما كان يرحم المساكين ويغيث الملهوفين ويعطف على الأيتام فليس له شيء، فمن قال إنّ له ثواباً يكفر لأنه كذّب القرآن."
تعالوا نتخيل معاً رجلاً وضع في الفناء الخلفي لحديقة بيته برميلاً كبيراً لجمع القمامة، وكلما عثر في بيته أو في حديقته الأمامية على نفاية تشوّه جماله أو تلوّث نظافته، أخذها وألقاها في ذلك البرميل. قضى حياته يجمع قاذوراته دون أن يفكر يوماً بالتخلص منها أو أن يسمح لعامل التنظيفات بتفريغ البرميل. النفايات ستتراكم وتتخمر؛ ستنمو عليها الجراثيم والفطور فتنشر في الجو سموماً تعود لتدخل بيته من خلال النوافذ لتتسرب عبر الهواء إلى رئتيه ومن ثم إلى جسده كله. يُنهك المرض جسد ذلك الإنسان ويشـلّه دون أن يدرك أنه قد حفر قبره بيديه! ينطبق هذا المثال تماماً على الصحة النفسية والعقلية للإنسـان، حيث أن للعقل (القوى العليا الضابطة) حيّزان: حيّز الوعي وهو الحديقة الأمامية للبيت، وحيّز اللاوعي وهو الفناء الخلفي. تستمد أية فكرة شرعيتها ومنطقها من قابليتها للتطبيق العملي والآثار الإيجابية لهذا التطبيق. عندما يتبنى الإنسان فكرة ـ أية فكرة ـ ويؤمن بها في ساحة وعيه، يحاول جاهداً تطبيق تلك الفكرة على واقعه، وعندما يستحيل هذا التطبيق لكون تلك الفكرة وهمية غير منطقية، يبدأ آنذاك الصراع في حيّز الوعي، صراعٌ لا يجد الإنسان له حلاً إلا بقلع تلك الفكرة من حديقة بيته الأمامية (حيّز وعيه) ثم إلقائها في حيّز اللاوعي (برميل القمامة في حديقته الخلفية) وتركهـا هناك. هو ينســاها، لكنّهــا لا تنســاه إذ تعود عاجلاً أم آجلاً إلى حيّز وعيه على شكل ضغوط وأمراض نفسية لتخرب جهازه العقلي فتحوّله إلى مريض منهكٍ عاجزٍ عن فهم وضعه وما آلت إليه حالته!
عندما يزرع الشيخ بلال وأمثاله في عقل الطفل المسلم منذ نعومة أظفاره بأن الله لا يقبل صدقة أو إغاثة حتى ولو كانت لامرأة أرملة أو طفل يتيم لأنها صدرت عن إنسان غير مسلم، ما الذي يحدث؟!! يكبر هذا الطفل ليصبح رجلاً ملتزماً بدينه وتعليمات شيخه!. يتطلّب التزامه الديني (كأي رجل ملتزم بدينه) أن يرفض ما يرفضه الله. هنا يبدأ الصراع!.. كيف يرفض إغاثــةً من غير مســلم بينما هو يعيش عمليـاً على تلك الإغاثة؟!!.. أكله، شــرابه، لباسـه، دواؤه، لقاحاتــه، أســلحته، كتبــه، معدّاتــه.. كلهـا مصنوعة بأيد غير مســلمة ولو رفضها لتــاهَ في الصحراء لا يجد ناقة يمتطيهــا ولا خيمة يأوي إليها! لا يحمّل الله نفسـاً إلا وسـعها، لذلك لا يمكن أن يفرض سبحانه على مخلوق فكرة غير قابلةٍ للتطبيق الحياتي، وبالتالي فاقدة لشرعيتها ومنطقيتها، كي لا يشرخ عقل الإنسان ويفقده منطقه وصوابه. أمّا أن يقنع الله أتباعَ دينٍ بأنه لا يقبل عملاً خيّراً إلا منهم ثم يضعهم في حالة مزرية يحتاجون فيها إلى كل عمل خير من غيرهم فلا شكّ بأنه أمرُ يتعارض مع عدله وحكمته!! كيف يستطيع مؤمن أن يقبل ما يرفضه الله؟!
"ســالك" طبيب يهودي أوجد لقاحاً ضد شلل الأطفال وحرر البشرية من براثن هذا المرض الخطير. لا يوجد مسلم في العالم إلا وتجري في عروقه جرعة من هذا اللقاح. لا يوجد بلد إسلامي في العالم يحضّر هذا اللقاح في مخابره؛ يصل إلينا جاهزاً ومجاناً من منظمة الصحة العالمية. لو رفضنا تلك الإغاثة باعتبارها من مصدر غير إسلامي، ناهيكم عن غيره من اللقاحات والأدوية، لحصدتنا الحمى الصفراء والجدري والطاعون والجذام وشلل الأطفال وغيرها.. طرحُ الشيخ بلال لا يقتصر على تلك الخطورة بل يتعداها ليصبح إرهاباً يشلّ عقل المسلم وقوى تفكيره عندما يقول: "ومن قال أن إنّ له ثواباً يكفرُ لأنه كذّب القرآن"! يتّخذ القرآن ذريعة كي يُثبتً صحة ادّعاءاته دون أن يشرح بالتفصيل في أيّة آيةِ وردت هذه الفكرة.
إنه يدرك من خلال النظام العقائدي والتربوي القمعي السائد في البلاد الإسلامية بأن على المسلم أن ينفّذ دون أن يعترض ويُقاد دون أن يفكّر. لذلك، وبسهولة متناهية، يقحم القرآن في حديثه كي يفوّت على كل مسلم الفرصة كي يفكّر، أو يشكّ، أو يتساءل. هنا يزداد الإنسـان صراعاً مع نفسه ويختنق برميل قمامته بقاذورات رماها فيه هؤلاء السحرة لتعود بعد ذلك إلى حيّز وعيه بشكل ضغوط يعجز المسلم تحت وطأتها عن إقامة أية علاقة إنسانية ناجحة مع الطرف الآخر! كيف سنثبت للعالم بأن الإسلام دين تسـامح؟!! هل يستطيع الشـيخ بلال أن يسامح جاره غير المسلم وهو يؤمن في قرارة نفسه أنّ الله لا يسامحه حتى ولو أغاث امرأة أرملة أو تصدّق على طفل يتيم؟!!.. هل يستطيع أن يقبل ما يقول هو نفسه بأنّ الله يرفضه؟.. هل يســتطيع أن يرفض ما يحتاج إليه؟!.. إن الصراع بين الرفض والقبول وحده يكفي لصدع عقل المسلم، فهل يمكن أن تُبنى أمة سليمةٌ معافاةٌ من أناس ذوي عقولٍ متصدّعة؟..
العالم اليوم يسعى لأن يكون عائلة واحدة، كل فردٍ فيها معنيّ بقبول الفرد الآخر، ولذلك يحتاج المسلمون اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى عقلائهم وحكمائهم ومفكريهم كي يسدّوا الطريق أمام هؤلاء السحرة وينقذوا الأمة من براثن غيلانها! لنصغِ إلى خطبة الجمعة في أي بلدٍ إسلامي لا على التعيين، ماذا نسمع؟! اللهمّ دمّر.. اللهم احرق.. اللهم اقتل.. اللهم رمّل.. اللهم يتِّم.. اللهم شـرِّد!.. ماذا يبقى لأمةٍ يتعســكر رجال دينها؟.. سـئِلَ بيكاسـو مرة: ما ســرُّ إبداعكَ؟ قال: قبل أن أهمّ بالدخول إلى مرسـمي أخلع جسدي على عتبته كما يخلع المسلم حذاءه على عتبة مسجده. لم نعد بحاجة إلى خلع أحذيتنـا!.. علينا أن نخلع أجسادنا.. أحقادنا.. أسلحتنا.. وندخله مجردين إلا من أرواحنا!.. يخاطب شاعر أفغاني طفله بقوله: "يا بني إنّ للحمام عيوناً جميلة.. "ولكن الصقور تملك السـماء.. "اقلع عينيك الجميلتين.. "وانبت لك مخالبــاً!" ولنا أن نتصوّر مستقبل أمّةٍ تصبح بكاملهـا مفقوءة العيون حادة المخالب!.. ربّوا الصقـور!.. لا أحد يستطيع أن يلومكم على ذلك، ولكن اتركوا للحمام عيونه!!
شــاعرنا محمود درويش يحثنا بقصيدته الجميلة: "للطلقة في صدر فاشستي سأغنّي.." لا، لن أغنّي.. قد أضطرُّ لأن أمزّق جسد عدوّي بالرصاص، ولكني قطعاً لن أغنّي لموته!! كنا أطفالاً نتزاحم في المناسبات الوطنية كي نردد مع فهد بلان أغنيته: "ونشرب دم الغاصب شرب.." أكثر من ثلاثة آلاف مواطن أمريكي لقوا حتفهم في عملية أيلول الإرهابية، فهل سمعنا طفلاً أمريكياً على شاشة التلفزيون، في البيت، في الشارع، أو في المدرسة يغني: ونشرب دم بن لادن شرب؟!.. طبعاً لا!.. قالها رامزفيلد وزير الدفاع الأمريكي ولم يقلها غيره. ربّوا صقوراً حادة المخالب كرامزفيلد ـ لا أحد يمنعكم ـ ولكن اتركوا لأطفالنا عيونهم الجميلة!!
دانيال، شاب أمريكي من اصل أرجنتيني، وهو صديق عزيز جداً لابني مازن، التحق بالجيش فور تخرجه من الثانوية العامة. ما زلت أذكر ولن أنسى لقاءه الأول مع ابني بعد غياب طال أكثر من عام. منذ ذلك الحين ومازن يذهب إلى محطة القطار مرة كل أسبوع للقاء دانيال وهو في طريقه لقضاء عطلة الأسبوع مع أهله. لاحظت مؤخراً فتوراً في العلاقات بين ابني ودانيال، فتوراً أثار حيرتي. لقد كان ابني يتأخر بالرد على الرسائل الصوتية التي كان دانيال يتركها له. بعد بضعة محاولات لمعرفة أسباب هذا الفتور قال مازن ونبرات صوته تعبر عن خيبة أمل: إنني أشعر بالأسف يا أماه. التحاق دانيال بالجيش قد جعل منه شخصاً مختلفاً كل الاختلاف. لقد تعسكر عقله. صار يقود سيارته بطريقة عسكرية. يأكل بطريقة عسكرية. باتت العلاقة معه صعبة. لأمريكا جيش قوي ومن حقها كما هو من حق كل أمة على سطح الأرض أن تجنّد بعد أبنائها لحماية وجودها وكيانها، ولكن كم سيكون حجم المأساة لو تحول كل طفل في المجتمع الأمريكي إلى دانيال؟!..
عندما فجرت فتاة فلسطينية يافعة نفسها أمام متجر يهودي، عثروا على رأسها في كومة بطيخ أمام المتجر وإحدى ساقيها في قسم اللحوم. لا يكفي الظلم وحده ـ مهما كان فظيعاً ـ أن يدفع الإنسان إلى قتل نفسه بتلك الطريقة الشنيعة وبمحض إرادته. وحدهم السحرة هم الذين يحولونه إلى غول!! لا يستطيع الغول أن يميّز بين عدوه وجاره عندما يختلف لأقل الأسباب وأتفهها مع هذا الجار. هل ميّز الغيلان في سوريا عندما اقتحموا مدرسة المدفعية وقتلوا مائتين من زملائهم؟.. هل ميّز الغيلان عندما فجروا سيارة مفخخة في حي الأزبكية بدمشق وأطبقوا بناية بكاملها فوق سكانها؟ هل ميّز الغيلان في صعيد مصر عندما اجتاحوا قرية الكشح وذبحوا واحداً وعشرين من العزّل الأبرياء؟ هل ميّزوا في الجزائر عندما بقروا بطون مائة ألف رجل وطفل وامرأة؟! طبعاًً.. لم يكن مبررٌ لوحشيتهم سوى كونهم غيلان!
كنت يوماً في طريقي من مشفى حلب الجامعي ترافقني زميلتي الدكتورة سمر الشايب وهي سيدة محجبة خلوقة مهذبة عندما صادفنا على بوابة المستشفى طفلين يتراوح عمراهما بين السادسة والتاسعة، كان يقبض كل منهما بيده على عصفور حي وينتف ريشه باليد الأخرى والعصفوران يزقزقان ألماً يستجيران ولا من مجير. أدرت ظهري من هول المنظر وغطيت وجهي بيدي بينما اقتربت سمر من الطفلين متوسلة: حرام عليكم يا أولاد!.. وجاءها الرد من كبيرهما فوراً: حرام عليك أنتِ أن تتجولي بين الرجال، عودي إلى بيتك وانقبري هنــاك! تركتُ سمر تجادل الطفلين وأسرعتُ إلى أقرب موقف باص لقناعتي المطلقة بأنني لا أستطيع أن أحوّل الغول طفلاً!! لا أعرف الآن مصير ذانك الطفلين لكني لن أستغرب إذا سمعت بأن أحدهما اقتحم بطائرة مدنية بناية تغص بالناس، والآخر ينط من كهف إلى كهفٍ في أفغانستان!
لا، لن أستغرب ذلك، ولكني سأستغرب إن قيل لي بأنهما إنسانان طبيعيان يعيشان حياة أسروية متوازنة نفسياً وعقلياً وفكرياً. كنّا حديثي العهد في أمريكا عندما كان ابني مازن يركض ـ تشجعه أخته فرح في الحديقة العامة ويصيح بأعلى صوته: ماما أرجوك أن تعثري لي على حجر كبير كي أضرب تلك البطة وأكسر رجلها. بعد مرور عامين على تواجدنا هنا، عثر الأطفال في حديقتنا على طائر ميت فأقاموا عليه مناحة. اضطررت وأباهم تحت ضغط حزنهم أن ندفن الطائر في حفرة صغيرة، وضعنا فوقها بعض الأزهار ثم وقفنا متشابكي الأيدي دقيقة صمت على روح الفقيد! في أواسط الستينات كنت طفلة صغيرة وكانت حركة "فتح" قد ولدت لتوّها. طرح علينا المدرس سؤالاً: ماذا ستصبح في المستقبل؟.. وتعالى الصياح: فدائي.. فدائي.. فدائي.. لو ارتقى المعلم آنذاك بمستوى تفكيره قليلاً لأدرك خطورة المستقبل الذي كان ينتظرنا. لم يشأ أحد من الطلاب أن يصبح مزارعاً.. نسّـاجاً.. نجاراً.. خبازاً.. ممرضاً.. طبيباً.. معلماً.. مهندساً.. أو عامل تنظيفات. كبرنا وصرنا فدائيين (!!!) وها نحن نعيش المستقبل الذي انتظرناه.
ازدادت رقعة الأرض السليبة اتساعاً.. ازداد جهلنا، جوعنا، عرينا، فقرنا، مرضنا، وتشرذمنا. تحولنا جميعاً في أعين العالم إلى غيلان. ما زال المعلم نفسه في كل مدرسة عبر وطننا المذبوح من الوريد إلى الوريد يطرح نفس السؤال ولكن دون أي جواب! وما زال الشيخ بلال يكرر نفس الهراء دون أي احتجاج؟ ثلاثمائة مصلي جلسوا أمامه يوم عيد المولد النبوي.. هو يخيط وهم يلبسون. لم يرتقِ أحد بينهم بمستوى تفكيره إلى حدّ السؤال!! زرع قناص واشنطن في الأسابيع الأخيرة الرعب في قلوب الناس في عاصمة أقوى دولة في العالم. لمدّة ثلاثة أسابيع والأطفال في المراحل الابتدائية محشورون كالسردين داخل صفوفهم دون أن يمارسوا أياً من نشاطاتهم. صرح ناطق باسم قطاع التعليم: ليس الخوف على حياتهم وحده هو الذي يدفعنا إلى إبقائهم داخل صفوفهم، بل الخوف أيضاً على عقولهم الغضة التي لا تستطيع استيعاب ما يجري من أعمال عنف في الخارج. نحاول قدر الإمكان أن نحوّل محور انتباههم ونُشغِلهم داخل الصف بقضايا تناسب أعمارهم ولا ترهق تفكيرهم.
في الذكرى السنوية الأولى لأحداث أيلول الإرهابية، نصح المختصون التربويون والنفسيون وسائل الإعلام بأن تقلل من عرض مناظر تلك الأحداث خوفاً على الصحة النفسية والعقلية للأطفال والتي أكدت الدراسات أنها تأثرت كثيراً تحت ضغط هذه المشاهد في العام الفائت.
اجتاحت مجموعة من الشيشان مدججة بالأسلحة والمتفجرات مسرحاً في موسكو الأسبوع الماضي وهددت بقتل أكثر من ثمانمائة شخص جاؤوا للاستمتاع بالموسيقى والغناء. سلموا مفاوضيهم رسالة تقول: نقسم بالله العظيم أننا نحب الموت أكثر مما تحبون الحياة!.. ما الحكمة في أن نحبّ الموت؟.. لا يستطيع إنســانٌ أن يصل إلى قناعة بأن الموت أفضل من الحياة لو لم يمر يوماً في طريقه من طفولته إلى بلوغه على كهف الساحرة كي تعلمه كيف ينتف عصفوراً حياً ويكسر رجل بطة مسالمة، لينتهي بعد ذلك بتفجير طائرة للركاب أو اقتحام مسرح للغناء!! لم يسئ أتباع دين في العالم إلى دينهم كما أساء المسلمون!.. بعضهم شوّه هذا الدين والبعض الآخر صمت حيال ذلك. والذين صمتوا ينقسمون بدورهم إلى فئتين: فئة صمتت لأنها تخاف وفئة صمتت لأنها تتفق مبدئياً مع الذين شوهوه، وكل من الفئتين مسؤول ومُدان!!
أصدرت السيدة كلينتون منذ عدة أعوام كتاباً بعنوان،
It Takes a Village
(نحتاج إلى قرية) أحدث ضجة في الأوساط الصحفية. عنوان الكتاب يعبّر عن محتواه وهو مأخوذ من مثل إفريقي يقول: نحتاج إلى قرية بكاملها كي نربّي طفلاً. يبدو أن السيدة كلينتون قد توصلت في كتابها إلى نصف الحقيقة إذ غاب عنها نصفها الآخر: ونحتاج إلى شيخ واحد كي نهدم قرية. "صوتي ليس عورة. أشــكر الله أنه أجملُ هبةٍ منحتني إياها السماء!"
د. وفاء سلطان نشرت في الناقد

Saturday, December 09, 2006

شادي ركض يتفرج


شادي ركض يتفرج

في هذه المرة، فإن "يتفرج" لا تعني الفرجة كما في أغنية فيروز، "شادي"، وإنما تعني الفَرَج، البحث عن الفرج. كان شادي علي موعدٍ معهم وعلي فراقٍ معنا، سافر إلي مدينة الضباب، من أجل الفرج، الحياة التي فشل في أن يجدها هنا، وفشلت في أن تجده. ملمس ناعم آخر يبتعد، ودفء آخر يتواري، ليتركك في حجرتك/العالم الصغيرة/الكبيرة.
شادي لويس
هل تفسد المعرفة والثقافة المشاعر؟ شادي كان الإجابة، بقدر ما يبهرك بما يعرف كان يبهرك بما يشعر، فيقاسمك ذلك العبء الذي كنت تحبه أحياناً وتكرهه أحياناً، أن تشعر بما لم يقال
لم أجرؤ أن أخبره علي الليلة الأولي الصعبة، التي قضيتها قبل سفره، بعد ما عرفت – لم أحب أن أزيد مهمته صعوبة، أن يرحل تاركنا خلفه. عرفت أنني لن أجده عندما احتاج إليه مثلما كان دائماً هناك، دون أن يخلف موعداً. والآن لم يبق من الملمس الناعم ولا الدفء الكثير، فلديك وعد آخر بالرحيل، تنتظره.

يجب أن تتصرف كالرجال، أليس كذلك؟ تعلم أن الحياة تستمر بدون أي أحد وكل أحد. استمرت بعد المسيح والحسين وناظم حكمت وسيد درويش وسعاد حسني والخمسين محترق في مسرح بني سويف وأيمن حامد. وتعلم أن رحيل شادي ليس النهاية، فهو قد رحل ليبدأ من جديد، لا لينتهي. تعلم أن "هنا" قد انتهي له، كما يجب أن ينتهي لك أيضاً، رغماً عنك. تعلم هذا، فلما الألم؟
ليس لديك إجابة؟
ربما كان ذلك الطفل الذي يخاف الثلج الذي يغطي الحياة، وكلما زاد الزحف زاد الخوف، بأن النهاية تقترب، لا، ربما لا تخاف النهاية، وإنما الانتظار، انتظارها تحت الثلج، وحدك وحدك وحدك، من جديد. تنكمش تلك الأرض التي تجرؤ وطئها دونهم، فتعود من جديد للكهف المعتم المقبض الذي كنت فيه، فعلي الأقل، رغم كل ما لا تحبه فيه، تجد فيه الدفء .
العام الماضي كان أول خيط الرحيل، واستمر حتى بدا بلا نهاية. يبدأ الرحيل في أيلول/سبتمبر، ويستمر حتى أول العام، فتحتفل في رأس السنة بأن العام قد انتهي، وبأنه لا مزيد من الرحيل حتى أيلول القادم. نعم، لا زال هناك وقت للفراق هذا العام 2006.

"وحدك تصيخ لأنفاسك..صوت البكاء
يقولون أنه يجب أن تبقي رجل
كثيرة هي هذه ال "يجب"ه
الصلب من هذه الأشياء التي تجب
علي أولئك التعساء
المحزونين
الذين يعرفون!"

ماذا تعرف؟ أنه عام الرحيل، عام الثلج؟

ويحمل سيزيف الصخرة من جديد، لعله يصل، لعلها لا تسقط، لعل السماء...ه


سلام إليكم وعليكم أينما كنتم، أحبائي

وإليك يا صديقي..حبي
وشوقي للقاء
أنا


Monday, December 04, 2006

فيروز تصرخ مع المعتصمين: يا سيد الولاية... فليت وتركتنا



بيار أبي صعب
جاءت فيروز الى الموعد... امتلأت قاعة الـ “بيال”. وحدثت الأعجوبة. في الخارج ما زال قلب بيروت يرجّع صدى الهتافات. المعتصمون يواصلون اعتصامهم، والجميع يحاول استيعاب ما جرى في هذا النهار التاريخي. وحتى اللحظات الأخيرة، لم يصدق الجمهور أن فيروز ستقف على خشبة المسرح، فإذا بها تصير قرنفل، تتقمّص شخصية أنتيغونا الرحبانية التي تمرّدت على الحاكم (أنطوان كرباج) الجشع، المستخف بعباده، المستأثر بالسلطة... الذي ينام طوال الشهر، ولا يصحو سوى مرة لختم المعاملات.

وإذا كان المسرح الرحباني حافلاً بالأعاجيب، كما يلاحظ فواز طرابلسي، فإن الأعجوبة الأولى أن أوبريت“صحّ النوم” التي أعاد زياد الرحباني إحياءها، نافضاً عنها غبار الزمن، تمكنت أخيراً من لقاء جمهورها. لكن الأعجوبة الثانية أن المسرحية التي تعود الى عام 1970 بدت راهنة بشكل مدهش! تركة عاصي ومنصور التي تبدو ساذجة وفولكلورية، لا يعرف المرء متى تنفجر بين يديه... وها هي تأتي صدىً مدهشاً للراهن السياسي. فيروز التي طالما جمعت اللبنانيين في عرزالها المسحور، شاءت لها المصادفات أن تكون لسان حالهم مساء أمس. في شخصية قرنفل وفستانها “البرتقالي” (!)، ومظلتها البرتقالية التي ترمز إلى سقف بيتها الذي تهدّم ولا تستطيع بناءه، رفعت صوتها الذي “يجرّح أذني الوالي”، كأنها تهتف مع المعتصمين على مقربة منا: “يا سيد الولاية... فلّيت وتركتنا”.
المسرحية التي تتضمّن بعض أجمل الألحان (والقصائد) الرحبانية، تحكي عن الفساد، عن انقطاع الحاكم عن الناس، وسوء استعماله للسلطة، واحتقاره لحرية التعبير. لكن قرنفل تسرق الختم السحري وتعيد الى الأهالي شيئاً من حقوقهم المسلوبة...

صفق الجمهور طويلاً لكل التعليقات السياسية التي بدت ضد الحكومة الحالية. لكنّه صفق أيضاً (رغم الـ “بلاي باك”) لعمل فني حافظ مع السنوات على كل نضارته. عمل يختزن كل عبقرية المدرسة الرحبانية، وكل كليشيهاتها وسذاجتها أيضاً.

مسرحية “صحّ النوم” رحبانية بامتياز، و«أوبريت» بامتياز. في المرّة الأولى عطلها رحيل عبد الناصر، ثم حال العدوان الإسرائيلي الأخير دون تقديمها في بعلبك... إلى أن طلعت علينا فيروز من بين المعتصمين في قلب بيروت
الجمهور انتظر هذا الموعد طويلاً... حتى خاله لن يأتي أبداً. مسرحية “صحّ النوم” على خشبة الـ“بيال” إذاً. في هذه الظروف؟ وما همّ! القرية اللبنانية خارج الزمن. وفيروز تحلّق ــ بهالتها الملائكيّة ــ فوق صخب التاريخ. الواقع اللبناني ينبعث، بسحر ساحر، على الخشبة، من خلال تراث عاصي ومنصور. إنه فن الرحابنة، كلّه على المسرح.
في إحدى مسرحياته الساخرة، “شي فاشل”، أراد زياد الرحباني أن يستعيد تلك المدرسة الرحبانية التي صاغت مزاجاً، وقولبت وطناً، فلم يجد نموذجاً أفضل من “صحّ النوم”! المدرسة الرحبانية، آخر أوهام العصر الذهبي للبنان.
وزياد ــ رغماً عنه ــ وريث تلك المدرسة: إنّه مقوض أساساتها ومكمّلها في آن، بعدما قلب المعادلة على أصحابها (العلاقة بالواقع تحديداً)! وهذه إحدى مفارقات تجربة زياد التي تصنع فرادتها وديناميتها، ولا بدّ من أن ينكب عليها النقاد والباحثون والمؤرخون طويلاً، إذ سيجدون مادة غزيرة وغنية تبدأ بالإبداع الموسيقي والمسرحي، وتلامس حدود الشخصي والحميم، وتصبّ في السياسي أولاً وأخيراً. وها هو “الابن الرهيب” للمؤسسة الرحبانيّة يبعث تلك الأوبريت، مانحاً فيروز فرصة ذهبية للعودة إلى خشبة المسرح.


تأتي “صح النوم” (1970) بعد المسرحيات التاريخية مثل “أيام فخر الدين” (1966)، والانتقادية السياسية مثل “الشخص” (1968)، والوطنية مثل “جبال الصوان” (1969). لكنّها لا تنجو من إغراءات الإسقاط السياسي رغم خلوها من زخم المشاعر الوطنية والقومية. وإذا كانت “جبال الصوان” “حجر الأساس في تناول المسرح الرحباني للصراعات اللبنانية، خلال مرحلة تحتشد فيها الإشارات والدعوات الى التغيير”، كما يعتير فوّاز طرابلسي في كتابه المرجعي “فيروز والرحابنة ــ مسرح الغريب والكنز والأعجوبة” (دار الريّس ــ 2006)، فإن “صح النوم”، المبنيّة على حكاية شعبية (الخاتم والبئر)، تتميّز بنفس انتقادي للبيروقراطية والفساد الإداري... يدعو الأخوان رحباني من خلالها إلى... ضرورة المشاركة الشعبية والإصلاح الإداري! ما هذا السحر الذي يجعلها اليوم ــ الآن وهنا ــ راهنة بهذه الحدّة السياسية، غير المقصودة على الأرجح؟ هكذا هو التراث الرحباني، نخاله صالحاً لمتاحف الفولكلور، فإذا به مادة خطيرة قد تنفجر بين أيدينا في أي لحظة! وهذا ما حدث ليلة أمس في “بيال”.
الوالي ينام طوال الشهر، ولا يصحو سوى يوم واحد للاهتمام برعاياه، موقعاً فقط على ثلاث من معاملات الأهالي. وقرنقل (فيروز) تنتظر منذ 6 أشهر للتوقيع على معاملة بناء سقف لبيتها “البلا سقف”! ماذا تراها تفعل؟ تسرق ختم الوالي، وتروح تفش كربة “المواطنين” الناطرين. لكن “قرنفل العفريتة” ترمي الختم في البئر، وتخلق ما قد نسميه اليوم “أزمة سياسية”! لكنّ الوالي يعفو عنها بقلبه الكبير، بعد أن تغوص في عتمة البئر وتنتشله. في بيروت، الآن وهنا، ترن كلمات الرحابنة على قاب قوسين من عشرات آلاف المعتصمين: “يا مولانا الوالي/ شفت الأهالي ناطرين/ واقفين، ناطرين/ حاملين بيوتن بإيديهم/ جرّحني صريخ ولادن/ وشفتك نايم يا مولانا...”.

“صح النوم” بحواراتها الملحّنة الشديدة الغزارة، هي المسرحية الغنائية الرحبانية بامتياز. الأغنيات امتداد للحوار، ليست تزيينية بل منخرطة في السياق الدرامي. أوبريت تقوم على مونولوجات مغنّاة... جاء زياد الرحباني ونفض غبار الماضي عن تسجيلاتها الموسيقية القديمة. لم يتطاول على توزيعها الأصلي، هو الذي كاد يعيد كتابة تاريخ فيروز بتوزيعاته، بل اكتفى بإعادة تسجيل الموسيقى والحوارات الغنائية، وعدّل إيقاع بعض الحوارات. أما بصمته الخاصة فتتمثل في إعادة قراءة البناء الموسيقي الأصلي وتسليط الضوء على مواطن القوة فيه.
وبما أن حجر الأساس في «صح النوم» هو الغناء الفردي والجماعي، فقد كان من الطبيعي أن يعطي زياد للكورس دوراً مستقلاً، إلى جانب الممثلين والراقصين. بل إنه وظف الكورس في كسر الجدار الرابع مع الجمهور. ولجأ إلى الخيار “البريختي” (التغريبي) نفسه، من خلال ادخال عنصر العزف الحيّ، إذ اخترع 3 عازفات بالزي العسكري (فلوت وطبل وصنوج).
يبقى أن هذه الاستعادة تكتسي بعداً مدهشاً اليوم. من كان يظن أنّه سيضجر، أو يستسلم لبراثن الحنين لدى مشاهدة “صحّ النوم 2006”، سيفاجأ باندماجه في اللعبة... كأن التاريخ اللبناني توقف عند السبعينيات. يرى فواز طرابلسي في تلك المسرحية تحذيراً “أطلقه الرحابنة من تمادي الحكم في إغفال قضايا الناس، وضدّ استفحال الفساد الإداري”. لكن المقارنة مع الواقع تقف عند هذا الحدّ! ففي العالم الرحباني، حتى بعد أن مرت عليه أصابع زياد، لا بد من أن تكون النهاية سعيدة. تتصالح المعارضة (قرنفل) مع الحاكم، وترفع الظلم، وتترك للمواطنين أن يشاركوا في الحكم أخيراً. أما الواقع، فحكاية أخرى