سيزيف مصري

في الأسطورة الأغريقية، سيزيف في الجحيم وعقابه أن يرفع صخرة من القاع حتي قمة جبل شاهق، وقبل أن يصل بقليل تسقط منه لأسفل، فيعود ليبدأ من جديد، بلا نهاية. ما أشبه ذلك بنا، أولادك يا بلدي

Tuesday, March 01, 2011

مقال أرمبروست عن مسألة التكنوقراط ومصالح الجنرالات، أو الثورة ضد الليبرالية الجديدة

الثورة ضد الليبرالية الجديدة

والتر أرمبروست

يوم 15 فبراير، وفي الساعة 09:45 صباحا، كُتب تعليق على وول صفحة "كلنا خالد سعيد" على موقع فيس بوك، التي يشرف عليها وائل غنيم، بالغ الشهرة الآن، عن خبر يقول أن الحكومات الأوروبية تتعرض لضغوط لتجميد أرصدة أفراد نظام مبارك الذين أقيلوا حديثا. قال التعليق: "أخبار رائعة ... لا نريد الانتقام من أي شخص ... من حقنا جميعا مسائلة أي شخص أساء إلى هذا الشعب. بالقانون نريد أموال الشعب التي سُرقت ... لأنها أموال المصريين، الذين يعيش منهم 40% تحت خط الفقر." في الوقت الذي قمت فيه بتفريغ هذا التعليق، بعدها بواحد وعشرين ساعة، كان 5999 شخص قد ضغطوا على "like" وتقريبا 5500 تركوا تعليقات. لم أحاول تجشم عناء هذه المهمة الهرقلية، قراءة ما يزيد عن خمسة آلاف تعليق (التي لا شك أن المزيد منها يضاف بينما أكتب)، ولكن نظرة عامة مطوّلة نسبيا لم تترك أدنى شك في أن أغلب التعليقات كانت لناس ضغطت على "like" على صفحة فيس بوك. كانت هناك أيضا تعليقات قليلة من مدافعين عن النظام ومن آخرين لم يحبوا هذا التأليه الذي أحاط بالسيد غنيم.

يحمل هذا التعليق الفيس بوكي أعراض هذه اللحظة. الآن وقد سقط نظام مبارك، جاءت للصدارة رغبة ملحة في مسائلة هذا النظام على جرائمه وتحديد المتواطئين معه. كانت الهتافات والأغاني والأشعار التي قيلت في ميدان التحرير دائما ما تحتوي على شيء من الغضب نحو "الحرامية" الذين أفادوا من فساد النظام. الآن توجد قوائم لمؤيدي النظام يتم تداولها في الصحف والمدونات. مبارك وأقرب أقرباءه (ابنيه جمال وعلاء) دائما ما يكونوا على رأس هذه القوائم. تعطي المقالات التي عن ثرواتهم الشخصية أرقاما بحد أدني 2-3 مليار دولار أمريكي وبحد أقصى 70 مليار دولار أمريكي (تكرر ظهور الرقم الأعلى على العديد من لافتات المتظاهرين). يفترض أن أحمد عز، السكرتير العام المقال للحزب الوطني الديمقراطي وأكبر أقطاب الصلب في الشرق الأوسط، لديه 18 مليار دولار أمريكي؛ وزهير جرانة، وزير السياحة السابق، 13 مليار دولار أمريكي؛ وأحمد المغربي، وزير الإسكان السابق 11 مليار دولار أمريكي؛ ووزير الداخلية السابق حبيب العادلي، الذي يكرهه الناس كثيرا لإشرافه على دولة بوليسية بلغت تجاوزاتها ما لا يمكن تصوّره، نجح أيضا في جمع 8 مليار دولار أمريكي – ليس سيئا لموظف حكومي كان يعمل طيلة عمره. هذه الأرقام ربما يثبت أنها غير دقيقة. ربما تكون بالغة الانخفاض أو ربما بالغة الارتفاع. وربما لن نعرف أبدا بالتحديد، لأن أغلب هذه الأموال خارج مصر، والحكومات الأجنبية لن تحقق في التعاملات المالية لأعضاء نظام مبارك إلا إذا قدمت لها الحكومة طلبا رسميا بأن تفعل هذا. أيا كانت الأرقام الصحيحة، ففساد نظام مبارك ليس موضع شك. أقل رقم تم ذكره (في صحيفة نيويورك تايمز) لثروة مبارك الشخصية، "فقط" 2 -3 مليار دولار أمريكي، إدانة كافية لرجل دخل القوات الجوية عام 1950 وعمره 22 عاما ليبدأ مهنته التي استمرت ستين عاما في "الحكومة".

ربما تكون ملاحقة مليارات أتباع النظام نزعة طبيعية لفترة ما بعد مبارك، ولكنها يمكن أيضا أن تضلل جهود إعادة بناء النظام السياسي. من الواضح أن الجنرالات التي تحكم مصر الآن سعداء بينما يدعون اللوم يلقى على السياسيين. لم تكن أسماءهم في قوائم الأكثر فسادا على نحو فاضح بين أفراد نظام مبارك، رغم أن، في الحقيقة، الرتب الكبيرة في الجيش أفادت طويلا من نظام كان يشبه (وأحيانا تقاطع مع) هذا الذي كان وراء ثراء شخصيات مدنية أبرز بكثير وفي محل اهتمام الجميع، مثل أحمد عز وحبيب العادلي.

أن تصف الاستغلال الصارخ للنظام السياسي من أجل الكسب الشخصي بالفساد يبدو مثل أن تخطئ إصابة الغابات فتصيب الأشجار. مثل هذا الاستغلال هو بالتأكيد انتهاك ضد المواطنين المصريين، ولكن تسميته بالفساد يشير إلى أن المشكلة تكمن في سلوك منحرف من نظام لولا ذلك كان ليعمل بدون مشاكل. إذا كانت هذه هي الحالة، إذن يمكن إسناد جرائم نظام مبارك في بساطة للشخصيات السيئة: غيّر الناس فتنتهي المشاكل. ولكن المشكلة الحقيقية مع النظام لم تكن بالضرورة أن أصحاب المناصب الرفيعة بالحكومة كانوا لصوصا بالمعنى المعتاد. لم يسرقوا بالضرورة مباشرة من خزانة الدولة. في الواقع أنهم اغتنوا من خلال اتحاد السياسة والتجارة تحت قناع الخصخصة. لم يكن هذا انتهاك للنظام بقدر ما كان تجارة بالشكل المعتاد. مصر مبارك، بإيجاز شديد، كانت، على نحو نموذجي، دولة ليبرالية جديدة.

رغم أن الليبرالية الجديدة الآن مصطلح واسع الاستخدام، فلا يزال من المفيد التوقف لحظة والتفكير عما يعنيه. في كتابه "تاريخ موجز لليبرالية الجديدة" Brief History of Neoliberalism استعرض عالم الجغرافيا الاجتماعية ديفيد هارفي "نظرية ممارسات سياسية اقتصادية تقترح أن رفاهة الإنسان يمكن الارتقاء بها بأفضل ما يكون عن طريق تحرير الحريات والمهارات الاستثمارية للفرد داخل إطار مؤسسي يتميز بحقوق ملكية خاصة قوية، وأسواق حرة، وتجارة حرة." الدول الليبرالية الجديدة تضمن، بالقوة إذا لزم الأمر، "العمل المناسب" للأسواق؛ وحيثما لا توجد تلك الأسواق (مثلا، في استخدام الأرض، والماء، والتعليم، والرعاية الصحية، والأمن الاجتماعي، أو التلوث البيئي)، فينبغي على الدولة أن تخلقها. ضمان قدسية الأسواق يفترض به أن يكون هو حد وظائف الدولة الشرعية، وتدخلات الدولة ينبغي دائما أن تكون في مرتبة أدنى بالنسبة للأسواق. كل سلوك إنساني، وليس فقط إنتاج البضائع والخدمات، يمكن اختزاله إلى تعاملات سوقية. تصبح الأسواق غاية في حد ذاتها، وحيث أن الوظيفة الشرعية الوحيدة للدول هي الدفاع عن الأسواق ومدها لدوائر جديدة، فالديمقراطية يمكن أن تكون مشكلة بقدر ما يمكن للناس أن تصوّت لصالح اختيارات سياسية واقتصادية تعطّل التشغيل الذي بلا قيد للأسواق، أو تحفظ مجالات ما من المساعي الإنسانية (التعليم، على سبيل المثال، أو الرعاية الصحية) من منطق الأسواق. من هنا كان يمكن فلسفيا أن يناط بالدولة الليبرالية الجديدة النقية الدفاع عن الأسواق حتى ضد مواطنيها. كأيدولوجيا، لا تقل الليبرالية الجديدة يوتوبية عن الشيوعية. يؤدي تطبيق الليبرالية الجديدة اليوتوبية في العالم الواقعي إلى مجتمعات مشوّهة مثلما بالتأكيد فعل تطبيق الشيوعية اليوتوبية.

هناك ملاحظتان صحيحتان عن تاريخ مصر كدولة ليبرالية جديدة. أولا، مصر مبارك كانت تعتبر في مقدمة من بدأوا السياسات الليبرالية الجديدة في الشرق الأوسط (ليس منافيا للمصادفة، كذلك كانت تونس بن على). ثانيا، كانت حقيقة اقتصاد مصر السياسي في عهد مبارك شديدة الاختلاف عن لغة الخطاب، كما كان الحال في كل دول الليبرالية الجديدة الأخرى، من تشيلي إلى إندونيسيا. نشر عالم السياسة تيموثي ميتشل مقالا كشف الكثير عن صنف الليبرالية الجديدة التي في مصر في كتابه "حكم الخبراء" Rule of Experts (في الفصل الذي بعنوان "دريم لاند" – المسمى باسم مدينة سكنية بناها أحمد بهجت، أحد أتباع نظام مبارك والذي فقد مصداقيته الآن بسقوط النظام؛ ونشرت نسخة منه ايضا في Merip). كان خلاصة صورة ميتشل لليبرالية الجديدة لمصر هي أنه بينما كانت مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي تشيد بمصر كمنارة لنجاح الأسواق الحرة، كانت الأدوات القياسية لقياس الاقتصاديات تعطي صورة غير مناسبة على نحو فظيع للاقتصاد المصري. في الحقيقة فإن عدم تقييد الأسواق وأجندة الخصخصة تم تطبيقهما على أحسن حال، على نحو متفاوت. كانت الناس الوحيدة التي عملت من أجلها الليبرالية الجديدة في مصر "كما يقول الكتاب" هي أكثر أفراد المجتمع عرضة للتأثر، ولم تكن خبرتهم مع الليبرالية الجديدة بالصورة الجميلة. تم قمع العمل النقابي في عنف شديد. فُرّغت أنظمة التعليم العام والرعاية الصحية من محتواها بمزيج من الإهمال والخصخصة. وعانت الغالبية من الأجور ثابتة أو التي تنخفض نسبيا بالنسبة للتضخم. قدرت البطالة رسميا 9.4% تقريبا العام الماضي (وأعلى بكثير بالنسبة للشباب الذين تقدموا ثورة الخامس والعشرين من يناير) وقرابة 20% من التعداد يقال أنه يعيش تحت خط الفقر الذي هو 2 دولار أمريكي يوميا لكل شخص.

بالنسبة للأغنياء، كانت القواعد شديدة الاختلاف. لم تقلّص مصر كثيرا من قطاعها العام، كما يتطلب الأمر بالنسبة لمذهب الليبرالية الجديدة، حيث أنها أعادت تخصيص الموارد العامة لصالح نخبة صغيرة وثرية بالفعل. أسقطت الخصخصة ثمارا يانعة للأفراد ذوي العلاقات الجيدة سياسيا، الذين أمكنهم أن يشتروا الأصول التي تملكها الدولة بأقل بكثير من قيمتها السوقية، أو يحتكروا ريع الإيجار من مصادر متنوعة مثل السياحة والمساعدات الأجنبية. جاءت نسب ضخمة من الأرباح التي حققتها شركات توفّر مواد البناء الأساسية، مثل الصلب والأسمنت، من عقود حكومية، نسبة منها بدورها كانت ترتبط بمعونات من حكومات أجنبية. والأهم من كل ذلك، أن الوظيفة المحدودة جدا للدولة التي يرشحها مذهب الليبرالية الجديدة نظريا كانت مقلوبة على رأسها في الحقيقة. في مصر مبارك كانت التجارة والحكومة مشتبكتين على نحو وثيق لدرجة أنه كان يصعب غالبا على أي مراقب خارجي فصلهما. ولأن العلاقات السياسية كانت الطرق المؤكدة أكثر للأرباح الفلكية، كانت هناك لرجال الأعمال دوافع قوية لشراء مناصب سياسية في الانتخابات المزيفة التي أدارها الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم. أيا كانت المنافسة التي كانت لأجل المقاعد في مجلسي الشعب والشورى فهي حدثت في الأساس بداخل الحزب الوطني. أما تمثيل الأعضاء الذين لا ينتمون للحزب الوطني في البرلمان، من طرف أحزاب المعارضة، فكان في حزم مسألة الحسابات السياسية التي صُنعت لانتخابات ما: اترك القليل من المرشحين المستقلين الذين يعرفون بانتسابهم للإخوان المسلمين يدخلون، في 2005 (وابدأ إرسال هزات الخوف إلى واشنطن)؛ وآمر بسيطرة الحزب الوطني كاملة عام 2010 (لإخلاء الطريق لجولة جديدة متوقعة من توزيع الأصول العامة على مستثمرين "خاصّين").

كان الاقتصاد السياسي لنظام مبارك تشكله تيارات كثيرة في تاريخ مصر الخاص، ولكن لم تكن خطوطه الواسعة فريدة بأي شكل من الأشكال. يمكن سرد قصص مشابهة في كل أنحاء باقي دول الشرق الأوسط، وأمريكا اللاتينية، وآسيا، وأوروبا، وأفريقيا. في كل مكان تم تجربة الليبرالية الجديدة فيه كانت النتائج متشابهة: الوصول إلى المثال اليوتوبي مستحيل؛ إجراءات رسمية للنشاط الاقتصادي تخفي وجه التفاوتات الهائلة في ثروات الأغنياء والفقراء؛ تصبح النخبة "أسياد الكون" باستخدام القوة للدفاع عن امتيازاتها، والتلاعب بالاقتصاد لمصلحتها، ولكنها لا تعيش أبدا في أي شيء يشبه العوالم المسوّقة [حوّلت إلى أسواق] بشدة والتي يتم فرضها على الفقراء.

ينبغي أن تبدو القصة مألوفة للأمريكيين أيضا. على سبيل المثال، الثروات الهائلة لعضوي وزارة ولاية الرئيس بوش، دونالد رامسفيلد وديك تشيني، من خلال تورطهما في شركات مثل هاليبرتون وجيليد ساينسس، هي نتاج نظام سياسي يسمح لهما – بشكل يكاد يكون قانوني – بغرس أحد أرجلهما في "التجارة" والأخرى في "الحكومة" إلى نقطة يصبح عندها التمييز بينهما غير واضح. في الولايات المتحدة، يفترض بالسياسيين في المناصب الحكومية أن يبيعوا أسهمهم في الشركات التي قد تخلق تعارضا في المصالح مع مناصبهم السياسية، ولكن هذا أصبح حتى لا يكاد يكون إجراء شكلي في العقود الأخيرة. يتحرك السياسيون من المكتب الحكومي لقاعة اجتماعات مجلس الإدارة إلى منظمة الضغط، ثم يعودوا مرة أخرى. تشيني ورامسفيلد ببساطة رفضا أن يتعاونا مع قواعد تعارُض المصالح، وكلاهما تربّح كثيرا من شركات كانت لها صلات متميزة بالحكومة، وشمل ذلك (في حالة هاليبرتون) عقودا لخدمات عسكرية تم خصخصتها أثناء غزو واحتلال العراق. بينما لا تسمح عقيدة الليبرالية الجديدة بأي دور شرعي للحكومة باستثناء حراسة قدسية الأسواق الحرة، تميّز التاريخ الأمريكي الحديث بالخصخصة المنتظمة للخدمات والموارد التي كانت توفرها أو تسيطر عليها الحكومة في السابق. ولكنه بشكل حتمي، هؤلاء الذين لهم صلات أقرب بالحكومة هم الذين في أفضل الأماكن للتربح من حملات الحكومة لبيع الوظائف التي كانت تقوم بها سابقا. ليس فقط الجمهوريين هم الذين متورطين في هذا الفساد المنظم. تورط وزير الخزانة روبرت روبن في عهد كلينتون مع سيتي جروب لا يصمد أمام الفحص الدقيق. قدّم لورنس سامرز دعما شديد الأهمية لكي يجعل عقود المشتقات المالية خارج السيطرة الحكومية بينما كان وزير الخزانة بوزارة كلينتون، وتربّح كثيرا من الشركات التي تعمل في نفس الممارسات بينما كان يعمل لأوباما (وبالطبع المشتقات المالية المبعدة عن سيطرة الحكومة كانت عنصرا أساسيا في الأزمة المالية التي أدّت إلى إنقاذ مالي فيدرالي ضخم لكامل الصناعة البنكية).

هكذا، فباللغة المصرية، عندما حاصر أحمد عز، السكرتير العام للحزب الوطني الديمقراطي، سوق الحديد وأعطي عقودا لبناء مشروعات مقاولات عامة-خاصة، أو عندما اشترى وزير البرلمان السابق طلعت مصطفى مساحات شاسعة من الأراضي للمدينة السكنية الراقية "مدينتي" بدون أن يضطر للدخول في عملية مناقصات تنافسية (ولكن مع الاستفادة من الطرق التي توفرها الدولة ومرافق البنية التحتية)، ربما كانا يمارسان فسادا منطقيا وأخلاقيا. ولكن ما كانا يفعلانه كان أيضا أمريكيا، لا يقل أمريكية عن فطيرة التفاح، على الأقل في غضون العقدين الأخيرين.

على أي حال، في المناخ الحالي أهم شيء ليس القضاء على أتباع نظام مبارك الذين تم عزلهم. إنه نوعا ما دور الجيش في النظام السياسي. إنه الجيش الذي يحكم الآن الدولة، وإن كان كسلطة انتقالية، أو كما يأمل ذلك أغلب المصريين. لا يظهر أي ممثلين للرتب العليا في الجيش المصري على القوائم العديدة لحلفاء النظام القديم الذين تستوجب مساءلتهم. على سبيل المثال، الصفحة الرئيسية للنسخة الورقية من "الأحرار"، الجريدة الناطقة باسم الحزب الاشتراكي الليبرالي، يوم 17 فبراير كان يزينها العنوان "أرصدة الفاسدين تصل إلى 700 مليار جنية [تقريبا 118 مليار دولار أمريكي] في 18 دولة". ولكن المقال لم يقل كلمة واحدة عن مكان الجيش في ملحمة السرقة تلك. ولكن الجيش كان رغم ذلك جزء من أتباع رأسمالية عهد مبارك. بعد سنوات مهنة قصيرة نسبيا في الجيش يتم مكافئة الضباط ذي الرتب العالية بمزايا إضافية، مثل مناصب مربحة للغاية في مجالس إدارة المشروعات الإسكانية والمراكز التجارية. بعض منها كانت في الأساس شركات قطاع عام تم تحويلها إلى القطاع العسكري عندما تطلبت برامج التعديل الهيكلي التي أمر بها صندوق النقد الدولي إجراء خفض في القطاع العام المدني. ولكن الجنرالات تتلقى أيضا دخلا ذي قدر من القطاع الخاص. الإنفاق العسكري نفسه كان أيضا مربحا لأنه يشمل كلا ميزانية الدولة وعقود مع الشركات الأمريكية التي قدّمت الأجهزة والخبرات الفنية. قدّمت الولايات المتحدة الكثير من تمويل هذا الإنفاق تحت شروط تطلّبت تدوير قدر كبير من هذا المال لمؤسسات أمريكية، ولكن كل هذه الصفقات تطلبت وسطاء. من يعمل كوسيط لعقود المعونات الأمريكية الأجنبية أفضل من رجال من نفس الجيش الذي يتلقى الخدمات التي تدفع كلفتها من هذه المعونات؟ في هذا الصدد كان مركّب العسكري-الصناعي المصري مرة أخرى يسرق صفحة من صفحات الكتاب الأمريكي لخطط اللعب؛ بالفعل بقدر ما أفاد الجيش المصري من المعونات الأجنبية الأمريكية بقدر ما كانت مصر جزء من مركّب العسكري-الصناعي الأمريكي، الذي يشتهر بنظام الباب الدوّار خاصته، وتدوير العسكريين المتقاعدين كأعضاء بجماعات الضغط وموظفين متعهدي دفاع.

بناء على هذا، فإنه تقريبا لا يمكن تصوّر أن جنرالات المجلس الأعلى للقوات المسلحة سوف يسمحون طواعية بأكثر من تغييرات تجميلية في الاقتصاد السياسي لمصر. ولكن يمكن إجبارهم على فعل هذا، على مضض. الجيش قوة غير حادة، ليست مناسبة للسيطرة على حشود المتظاهرين. البيان الأخير للمجلس الأعلى للقوات المسلحة كرر تأكيده على شرعية مطالب الحركات المطالبة بالديمقراطية وضرورة توقف الاحتجاجات حتى ترجع الدولة للعمل مرة أخرى. إذا استمرت المظاهرات إلى نقطة يشعر عندها المجلس الأعلى للقوات المسلحة أنه لم يعد بإمكانه أن يحتملها، عندئذ فإن الجنود الذين سيؤمرون بأن يقمعونها (بالفعل، تقول بعض الروايات أنهم بالفعل كانوا قد أمروا بأن يقمعونها في وقت سابق في الثورة ورفضوا أن يفعلوا هذا) بقوة القتل، ليسوا هم الجنرالات الذين كانوا جزء من فساد عهد مبارك، ولكنهم مجندين. المتظاهرون المطالبون بالديمقراطية والمتعاطفون معهم كثيرا ما يرددون الشعارات "الجيش والشعب إيد واحدة" و"الجيش مننا". كانوا يفكرون في المجندين، وكثير منهم لم يكونوا واعين بمدى الاختلاف التام بين مصالح الجنود والجنرالات.

بين المجندين والجنرالات هناك فريق من الضباط المحترفين ذوي مستوى متوسط كانت ولاءاتهم محل الكثير من التكهّنات. الجنرالات، من جانبهم، يريدون أن يحافظوا على امتيازاتهم، ولكن بدون أن يحكموا بشكل مباشر. الحكم المباشر الممتد يترك ضباط المجلس الأعلى للقوات المسلحة عرضة لتحديات من ضباط آخرين تُركوا بالخارج. أيضا الحكم المباشر سيجعل من المستحيل إخفاء أن ضباط النخبة ليسوا في الحقيقة جزء من "الإيد الواحدة" التي تتكون من الشعب والجيش (من المجندين). إنهم، بدلا من هذا، منطقيا، في نفس معسكر أحمد عز، وصفوت الشريف، وجمال مبارك، وحبيب العادلي – تحديدا، الأسماء على هذه القوائم التي تشكّل حلقات أعضاء النظام وأتباعه الذين يجب أن تتم محاكمتهم.

في النهاية، التخمين المضني لمقدار النقود التي سرقها نظام مبارك وكم يمكن أن يتوقع الناس ضخه ثانية للشعب، لهو أمر يراد به صرف الانتباه عن المسألة الحقيقية. إذا ظهر أن الرقم هو 50 مليار دولار أمريكي أو 500 مليار، لن يهم إذا ظلت مصر دولة ليبرالية جديدة مخصصة (اسميا) لأصولية أسواق حرة، من أجل الفقراء، بينما هي تخلق أصولا جديدة بعد خصخصتها يمكن أن يعاد تدويرها لسياسيين من الداخل، من أجل الأغنياء. إذا بحث المرء عن دلائل توحي إلى أي مدى ستعيد ثورة الخامس والعشرين من يناير بناء مصر، سيكون الأجدر بنا أن ننظر إلى مثل هذه المسائل مثل أي نوع من المشورة تلتمسها الحكومة المؤقتة من الجنرالات في تحقيق تفويضها بإعادة تشكيل الحكومة المصرية. فترة الحكومة العسكرية ستكون على الأرجح قصيرة كما أعلن عنها ويتبعها، كما يأمل المرء، حكومة مدنية مؤقتة لفترة محددة ما (على الأقل عامين) سيسمح أثناءها للأحزاب السياسية بالتنظيم على الأرض في استعدادها للانتخابات الحرة. ولكن الحكومات المؤقتة لها طريقة في أن تصبح دائمة. يسمع المرء أحيانا دعوات بتكوين حكومة "تكنوقراط" يمكنها أن تتولي المسائل العملية للحكم. تبدو كلمة "تكنوقراط" محايدة – الخبير الفني الذي يتخذ قرارات تخص مسألة "علمية". كثيرا ما كان يطلق المصطلح على يوسف بطرس غالي، على سبيل المثال، وزير المالية السابق، الذي كان واحد من أولاد جمال مبارك، الذين أتى بهم للوزارة عام 2006، على ما يبدو لتمهيد الطريق لابن الرئيس حتى يتولى السلطة. بطرس غالي متهم الآن بتخصيص 450 مليون جنيه مصري لصالح أحمد عز. ذات مرة جلست إلى جوار بطرس غالي في عشاء أثناء إحدى رحلاته بالخارج، وواتتني الفرصة لسؤاله متى ستكون الحكومة المصرية مستعدة لإجراء انتخابات حرة. كانت إجابته ترديدا لجملة النظام التي ظهر كذبها الآن، بأن الانتخابات مستحيلة لأن الديمقراطية الفعلية سينتج عنها مجيء الإخوان المسلمين للسلطة. من الجائز أن بطرس غالي سيفند تهمة توجيه أموال الدولة على وجه التخصيص لأحمد عز. ولكن حتى إذا ثبتت براءته من أفظع تجاوزات نظام مبارك، فبوصفه مهندس أساسي لبرامج خصخصة مصر، لا يمكن بأية حال القول أنه لم يكن واعيا بأنه كان يسهّل نظاما مكّن إمبراطورية حديد عز بينما في نفس الوقت الذي فيه دمّر الأنظمة التعليمية وأنظمة الرعاية الصحية في مصر.

المرة الخيرة التي قابلت فيها كلمة "تكنوقراط" كانت في كتاب نعومي كلاين "مذهب الصدمة" The Shock Doctrine – اتهاما شديدا لليبرالية الجديدة يقول أن أصولية الأسواق الحرة التي روّج لها عالم الاقتصاد ميلتون فريدمان (والمؤثرة على نحو هائل في الولايات المتحدة) تعتمد على إعادة هيكلة الاقتصاديات في أعقاب تعطيلات كارثية لأن المجتمعات والأنظمة السياسية التي تعمل على نحو طبيعي لن تختارها أبدا. التعطيلات يمكن أن تكون طبيعية أو من صنع الإنسان، مثل ... الثورات. الفصول في "مذهب الصدمة" عن بولندا، وروسيا، وجنوب أفريقيا، تصبح قراءتها أكثر تشويقا في سياق الثورة المصرية. في كل حالة انهارت فيها الحكومات (شيوعية أو تمييزية عنصرية) تم إحضار "التكنوقراط" للمساعدة في إدارة البلاد، التي أصبحت فجأة بدون حكومات، وخلق بنية تحتية مؤسسية لخلفائهم. بدا دائما أن الدواء الذي يصرفه التكنوقراط أحد أشكال ما أطلق عليه كلاين "العلاج بالصدمة" – فرض برامج خصخصة كاسحة قبل أن يفكر الشعب، المصاب بالدوار، في اختياراته ويصوّت ربما لاختيارات أقل نقاء من الناحية الأيديولوجية، وفي صالحه.

آخر موجة كبيرة من الثورات حدثت عام 1989. كانت الحكومات التي تنهار وقتئذ شيوعية، وبدا الاستبدال في "لحظة صادمة" لنظام اقتصادي متطرف بنقيضه شيئا متوقعا، ولكثيرين حتى طبيعيا. أحد الأشياء التي ربما تجعل الثورتين التونسية والمصرية هامتين على مستوى العالم هي أنهما حدثتا في دولتين بالفعل من دول الليبرالية الجديدة. فشل الليبرالية الجديدة الكامل في الوصول إلى "رفاهة الإنسانية" بالنسبة لأغلبية كبيرة من المصريين كان أحد الأسباب الرئيسية للثورة – على الأقل بمعنى المساعدة على تجهيز ملايين من الناس لم تكن متصلة بالوسائط الاجتماعية للخروج إلى الشوارع إلى جانب النشطاء المطالبين بالديمقراطية. ولكن ثورة الخامس والعشرين من يناير لا زالت "لحظة صادمة". حتى من النشطاء الذين قادوا الثورة، نسمع نداءات بإدخال التكنوقراط. على ما يبدو أنهم يعنون حكومة تسيير أعمال للحفاظ على سير القطارات وسداد الفواتير بينما يمكن تشكيل حكومة. ولكن يتم إخبارنا كل يوم أن الموقف مائع، وأن هناك فراغ في السلطة في أعقاب ليس فقط الحزب الوطني الديمقراطي الموصوم ولكن أيضا أحزاب المعارضة الشرعية التي فقدت مصداقيتها على نحو كبير، والتي لم تلعب أي دور أيا كان في ثورة الخامس والعشرين من يناير. ولكن في سياق جماهير مصابة بالدوار واقتصاد يصدر أصوات طقطقة، فالدعوة لحكومة تكنوقراط تبدو بعض الشيء مثل دعوة الثعلب للعودة إلى حظيرة الدجاج. على الأرجح أن الجنرالات سعداء بكل الحديث عن استرداد الأموال التي سرقها النظام، لأن الوجه الآخر من هذه العملة تيار من القلق يرتبط بحالة الاقتصاد. فكرة أن الاقتصاد في حالة انهيار – ابتعاد السائحين، تقويض ثقة المستثمرين، التوظيف في قطاع المقاولات في توقف تام، كثير من الصناعات والمشروعات التجارية تعمل بأقل كثيرا من طاقتها – يمكن أن تكون لحد بعيد هي الأساس المنطقي المتفرد، والأكثر خطورة، لفرض إصلاحات تجميلية تترك العلاقة المغلقة والمستبعدة للدخلاء، بين الحكومة والتجارة، كما هي لم تمس. أو الأسوأ، إذا تركت الحركة المطالبة بالديمقراطية نفسها تتعطل لأجل حكاية "الدمار الاقتصادي"، يمكن أن توضع هياكل في موضعها الصحيح بواسطة "التكنوقراط" وتحت رعاية الحكومة الانتقالية العسكرية يمكنها أن تهاجم الحكومة المدنية اللاحقة للإسراع في إيقاع الخصخصة فعليا. أصحاب الأيديولوجية، ومن بينهم هؤلاء من صنف الليبرالية الجديدة، عرضة لنمط تفكير سحري: إذا لم تعمل التعويذة، فليس الخطأ خطأ الساحر، ولكن الشامان الذي أدى التعويذة. بمعنى آخر، يمكن أن يكون المنطق أنها ليست الليبرالية الجديدة التي دمرت مصر مبارك، ولكنه التطبيق الخاطئ لليبرالية الجديدة. يتم إطلاق بالونات اختبار لحكاية السحر هذه بالفعل خارج مصر. نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالة بتاريخ 17 فبراير تطرح الجيش بوصفه قوة رجعية تناهض الخصخصة وتسعى للعودة للمذهب الناصري لمركزية الدولة. المقالة تباري بين "الجانب الجيد" في الظاهر لنظام مبارك (برامج الخصخصة) ضد "مركزية الدولة القومية العربية القديمة السيئة" متجاهلة كلية حقيقة أنه بينما ربما يحافظ نظام الامتيازات العسكرية على بعض موارد القطاع العام المحوّلة من الاقتصاد المدني تحت ضغط برامج التعديل الهيكلي لصندوق النقد الدولي، فإن إمبراطورية الجنرالات تكاد تقتصر على قطاع عام في حلقة تحوطها السياج، وتقريبا تحت الأرض. كان الضباط يكافئون أيضا بمزايا إضافية بالقطاع الخاص؛ الإمبراطوريات المدنية السياسية/التجارية مزجت بين الأدوار العامة والخاصة إلى درجة أن ما كان حكوميا وما كان خاصا كان لا يمكن التمييز بينهما؛ كلا الجيش والمدنيين كسبوا كسبا سريعا من الإيجارات في المعونات الأجنبية. ربما يفضل الجنرالات إلى حد كبير جولة جديدة من سحر الليبرالية الجديدة. المزيد من الخصخصة سوف يحرر من الأصول والإيجارات التي يمكن فقط الذين لديهم علاقات جيدة سياسيا (ويشمل ذلك الجنرالات) أن ينولوها. إصلاح دولة ليبرالية جديدة فاشلة بتطبيقات أكثر صرامة من الليبرالية الجديدة يمكن أن يكون أكثر الطرق التي تأكد لهم الحفاظ على امتيازاتهم.

الحل بالليبرالية الجديدة سيكون على أي حال مأساة للحركة المطالبة بالديمقراطية. مطالب المتظاهرين كانت واضحة وسياسية في الأساس: إسقاط النظام، إنهاء قانون الطوارئ, إيقاف تعذيب الدولة، إجراء انتخابات حرة ونزيهة. ولكن كان متضمنا في هذه المطالب من البداية (وقطعا قبل النهاية) توقع عدالة اجتماعية واقتصادية أكبر. الوسائط الاجتماعية ربما أمكنها أن تساعد على تنظيم نواة لحركة أطاحت في النهاية بمبارك، ولكن عنصر كبير مما أتى بما يكفي من الناس في الشوارع للتغلب في النهاية على قوات أمن الدولة كان التظلمات الاقتصادية، التي هي جوهرية بالنسبية لليبرالية الجديدة. هذه التظلمات لا يمكن اختزالها في الفقر المدقع، لأن الثورات لا يقوم بها أبدا أفقر الفقراء. بل كان الأمر إلحاح احساس بأن بعض المجالات الإنسانية يجب أن تكون خارج منطق الأسواق. مصر مبارك حطت من شأن المدارس والمستشفيات وضمنت أجورا غير متكافئة على نحو فظيع، خاصة في القطاع الخاص الذي لا يكف عن الاتساع. كان هذا ما حوّل مئات النشطاء المخلصين لملايين من المتظاهرين ذوي العزم. إذا لم ينتج عن ثورة الخامس والعشرين من يناير أكثر من مجرد خفض نفقات الليبرالية الجديدة، أو حتى تكثيفها، فهذه الملايين سيكون قد تم خداعها. يمكن أن يتم خداع بقية العالم أيضا. مصر وتونس هما أول شعبين ينفذا ثورة ناجحة ضد الأنظمة الليبرالية الجديدة. يمكن أن يتعلم الأمريكيون من المصريين. بالفعل، هناك علامات بأنهم بالفعل يتعلمون. أستاذة وسكونسن المتظاهرين ضد محاولات محافظهم بإلغاء الحق في التفاوض الجماعي حملوا لافتات تساوي مبارك بمحافظهم. ربما يمكن للمصريين أن يقولوا لأمريكا "عقبالك"!

http://www.jadaliyya.com/pages/index/717/the-revolution-against-neoliberalism

ترجمتي لمقال والتر أرمبروست التي نشرت بمجلة معهد الدراسات العربية "جدلية" 23 فبراير 2011

1 Comments:

  • At 10:08 PM, Blogger فارس عبدالفتاح said…

    انا قرأت كتاب عن الليبرالية الجديد ومتى نشأت وكيف نشأت وما هو الاهدف من نشأتها .

    وحتى بعض الخبراء والمحللين السياسيين وكان ابرزهم خبير روسي قال ان الولايات المتحدة الاميركية تحاول افتعال الحروب والازمات في العالم وخلخلت الامن في بعض الدول لتسيير اقتصادها والبقاء على قمة النظم الراسمالية الذي اثبت فشله اخيراً مما ادى الى عودة النظرية الماركسية الى والواجهة من جديد .

    فقد نشأت الليبرالية الجديدة من ازمات او فشل النظرية الراسمالية كنظام سياسي .. وتمخض عنها الليبراليةالجديدة .

    ولكني قد قرأت هذا الكتاب بدون اهتمام بالغ لأني كنت ارى انه غير واقعي وانه فيه مبالغات ولكن الواضح اني كنت مخطأ ولعدم اتسعا القاعدة المعرفية لدي في تسيير السياسية عبر الاقتصاد .


    فهذا ما حذر منه القائد جمال عبدالناصر في خطابه الشهير في عام 1956م، خطاب التأميم الذي تكلم فيه عن الاحتلال السياسي عن طريق الاحتلال الاقتصادي .

    ولكني سوف اقرأ من جديد هذا الكتاب وابحث في الموضوع بدقة وشمولية .

    شكراً على الافادة .

     

Post a Comment

<< Home